وصفي الذي خناه لنصبح غرباء في بلادنا

mainThumb

01-12-2008 12:00 AM

 
 
الزراعة ليست أرقاماً وحسابات على طريقة وزراء الدجيتال

رفض الرؤيا الأحادية والتعامل مع الإمعات والمخبرين

يحيي الأردنيون هذه الأيام ، ذكرى استشهاد الشهيد الحي وصفي التل . أقول الشهيد الحي ، تأكيداً لقناعتي التي سبق وأن قلتها ونشرتها، بأن القتلة الذين ظنوا أنهم برصاصاتهم الغادرة ينهون حياة وصفي، إنما كانوا من حيث لايدرون يعلنون بدء الحياة الحقيقية والخالدة لوصفي .

فقد تحول وصفي في لحظة شهادته إلى رمز، وإلى فكرة خالدة، وراسخة في ضمير شعبه، وتاريخ أمته .ستظل تذكره الأجيال ، وتقترب أكثر فأكثر من حقيقته التي حاول القتلة تشويهها . فخاب مسعاهم عندما تحولت رصاصاتهم إلى لحظة ميلاد حقيقية وخالدة لوصفي .

وخاب ظن أعدائه الذين خططوا لقتله فالرصاص لايقتل الأفكار ، حتى عندما يغيب أصحابها .بل إن غياب هؤلاء وخاصة عن طريقة الشهادة يحول دماءهم إلى ماء يروي شجرة هذه الأفكار. وهذا ما حدث لوصفي الذي نحيي اليوم ذكرى استشهاده وفي حلوقنا علقم . ليس بسبب غياب وصفي . فالموت سنة الحياة . وأكرم أنواع الموت أن يلقى المرء وجه ربه شهيداً.

أقول إن العلقم الذي يملأ مرارة حلوقنا ليس بسبب غياب وصفي. ولكن بسبب عجزنا عن ملء الفراغ الذي تركه وصفي وكأن أرحام الأردنيات أجدبت عن أن تلد مثل وصفي الذي رحل عنا منذ قرابة أربعة عقود .

اكتفينا خلالها باللطم والندب على غرار ما تفعله النائحة المستأجرة التي تعدد مآثر الميت دون أن تشعر بمرارة فقده . وهذا حال الكثيرين من الذين يبكون وصفي ويستذكرونه عند كل ملمة تصيب الوطن . لكنهم لايحاولون أن يحيوا وصفي عبر تجسيد أفكاره وأطروحاته في حياتنا الوطنية.

فقيمة وصفي ومكانته في قلوب أبناء شعبه لم تكن بسببب المواقع التي شغلها خاصة بعد أن سام بعض هذه المواقع كل مفلس .

لكن قيمة وصفي ومكانته تكمن في الأفكار والبرامج التي طرحها ، والسلوك الذي جسده وأول ذلك أن وصفي لم يتوقف في مرحلة من مراحل حياته عند حدود الشعارات التي يطرحها . لكنه كان يحول الشعار إلى خطة عمل، وخطة العمل إلى واقع يعيشه الناس عبر العمل.

كما فعل بالنسبة لكل القضايا التي آمن بها وفي مقدمتها قضية فلسطين التي كانت عنده معركة حضارة لابد من أن يكون للخلق والعقل دور مركزي في تحريرها . الذي لن يتم إلا عبر القتال الذي أخذ وصفي بأسبابه ، عندما انخرط شخصياً في العمل العسكري ، وقاتل فوق هضاب فلسطين، وسال دمه فوق ترابها عندما جرح في معاركها.

ومثلما آمن وصفي بأن معركة فلسطين معركة حضارة لابد أن يكون للعقل والخلق والسلاح أدوار في تحريرها. آمن أيضاً بأنها معركة الأمة كلها. وأن تحريرها لن يتم على أيدي الجيوش النظامية فحسب بل إن المقاومة الشعبية جزء أساسي في معركة التحرير. فسعى لتحقيق مقولة الشعب المسلح عبر تسليح القرى الحدودية . ليكون أهلها قادرين على رد الاعتداءات الإسرائيلية من جهة . وليكونوا سنداً ومدداً للقوات المسلحة.

وبعد هزيمة حزيران 1967 التي كان الشهيد ضد الدخول في الحرب التي سببتها، لمعرفته بنتائجها مقدماً .وبعد أن أرخت الهزيمة بظلها الثقيل على الأمة ، دعا إلى استمرار قتال العدو ، بنمط جديد من الحرب تندمج فيه المقاومة الشعبية على طريقة حرب العصابات بالقتال التقليدي للجيوش . لأنهاك العدو تمهيداً لهزيمته. وهذا النمط من القتال الذي دعا إليه الشهيد وصفي التل قبل أربعة عقود ونيف هو عينه النمط الذي حقق عبره لبنان الانتصار على العدو الإسرائيلي مرتين في عامي 2000 و2006 ، عبر تكامل جهد جيشه ومقاومته .

وهو عين ما تدعو إليه الاستراتيجية الدفاعية التي قدمها العماد ميشيل عون لمائدة الحوار اللبناني في جلستها الأخيرة . وعندي أن ما ذهب إليه وصفي قبل عقود . وما تنادي به المقاومة في لبنان هذه الأيام، هو السبيل الوحيد لأمتنا للتغلب على عدوها في ظل الخلل الواضح في موازين القوة التقليدية بين أمتنا وعدوها ، بفعل الدعم الغربي عموماً والأمريكي على وجه الخصوص لهذا العدو .

وهو الخلل الذي لا يمكن التخلص من نتائجه الا عبر الحرب الشعبية على غرار ما جرى في لبنان والتي أسفرت عن نتائج رائعة واضحة وضوح الشمس إلا لمن في عينه رمد بل وعمى . ومثلما حول وصفي شعاراته ومفاهيمه ، حول الصراع الدائر في فلسطين إلى خطط وبرامج عمل ، سعى إلى تطبيقها ، فقد فعل ذلك في كل شؤون حياته الخاصة والعامة ، فعندما كان وصفي التل يحث الأردنيين على الزراعة ويدفع طلاب المدارس إلى غرس الغابات الحرجية وغير الحرجية، والتي شكلت فيما بعد ثروة حرجية ضخمة للبلاد ، كان هو يمارس الزراعة بنفسه .

فيحرث الأرض ويبذر الحب ويروي المزروعات بيديه . وكثيرة هي القصص التي تروى عن تعلقه بالزراعة وعشقه لها . وهو عشق طبيعي عند رجل مثل وصفي في النضج الفكري والسياسي والانتماء الوطني والقومي .

فالزارعة ليست أرقاما وحسابات وصفقات تجارية ، كما ينظر إليها البعض في زمن وزراء الدجيتل الذي أظلنا. لكن الزراعة واحدة من أهم وسائل ارتباط الانسان بالأرض وبالوطن . وهي أول مهنة أخرجت الإنسان من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار، وولدت لديه الإحساس بالوطن .

ولذلك لم يكن غريباً أن تسمح الحركة الصهيونية لليهود في العالم كله بأن يمارسوا أي مهنة إلا الزراعة. لأنها لم تكن تريد لهؤلاء اليهود أن يرتبطوا بأي أرض من خلال الزراعة . ولم يكن غريباً بعد ذلك أن تكون أول مهنة فرضتها الحركة الصهيونية على اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين هي الزارعة عبر المستوطنات الزراعية التي أقامتها في فلسطين مع بواكير الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين .

فالزراعة هي الحبل السري الذي يربط الإنسان بالأرض وهي المعادلة التي فهمها وصفي وسعى إلى ترسيخها في وجدان الأردنيين كلهم.

وهاهي شرائح واسعة من الأردنيين الذين يدعون الوصل بوصفي وفكره ، يخونونه بالممارسة عندما تخلوا عن أرضهم وزراعتهم وحولوا الأرض إلى سلعة يتاجر بها السماسرة فصار السماسرة أثرياء وصرنا نحن غرباء في بلدنا وازدهر سوق العقار، وجاع الأردنيون الذين صاروا لا يأكلون مما تنتجه أرضهم .

التي صارت قدرتها على العطاء تقل يوماً بعد يوم بعد أن تخلى عنها أصحابها وصار مالكوها الجدد يزرعونها بغابات الأسمنت بدلاً من سنابل القمح والشعير؟! ومثلما خنا وصفي في علاقتنا مع الأرض ، خناه في علاقتنا مع الفساد والمفسدين أيضاً.

فقيمة الرجل وتميزه أنه كان حرباً على الفساد والمفسدين لا يهادنهم ولا يمالئهم ، ولو كانوا من أقرب الناس إليه دماً ونسباً .فأين نحن من الفساد الذي استشرى بيننا والمفسدين الذين تسيدوا علينا ؟!

* هل عفّ أحدنا عن تقديم رشوة أو قبضها؟! *هل عفّ أحدنا عن واسطة أو محسوبية يسعى إليها أو يمارسها؟ *وهل قبض أحدنا يده حتى لا توضع فيها أعطية يعلم أنها من مال عام تمت استباحته ؟ لم نفعل ذلك كله ومع ذلك نزعم أننا نحب وصفي ونؤمن بأفكاره وبمدرسته في الحكم وإدارة الدولة .

فأي ظلم يلحقه هؤلاء المتباكون على وصفي والمتسلقون على أفكاره ليحققوا بعض المكاسب الزائلة . بعد أن ظلموه عندما حاولوا تقزيمه من رجل قومي صاحب رؤى عريضة لمستقبل الأمة إلى رجل إقليمي ضيق الأفق وهو من الإقليمية براء.

وإذا كنا خنا وصفي في طريقة تعاملنا مع الفساد،فإن خيانتنا الكبرى للرجل ، ولأفكاره ومبادئه ولما عاش من أجله ومات في سبيله، هي في علاقتنا مع الوطن ككل فقد صار الوطن بالنسبة للكثيرين منا بقرة حلوباً.

تتوقف طبيعة علاقتهم به على حجم المنافع الآنية التي يحققها الواحد منهم . وصار من يقدم لنا هذه المنافع هو السيد المطاع .لذلك استشرى بيننا النفاق والمنافقون لأن هؤلاء يعمون عن الحقيقة بعد أن يشوهوها. ويسعون لكي لا يكون في الوطن الإ صوت واحد، هو صوت النفاق والمنافقين .

ويغدو الوطن أحادي الرؤية . وهو الأمر الذي رفضه وصفي. من هنا كانت أهم إنجازاته أنه أحرق كل ملفات المطلوبين سياسياً وفي عهد حكومته صدر العفو العام عن السياسيين وتم استيعاب كل طاقات الوطن على اختلاف رؤاها السياسية . فقد كان وصفي رافضاً للرؤية الأحادية مؤمناً بالتعددية السياسية والفكرية لأنها وسيلة من وسائل إثراء الوطن عبر توظيف كل قواه الحية لخدمة المشروع الوطني الجامع .

ومن مزايا وصفي أيضاً رفضه للفراغ السياسي . ورفضه لتهميش القوى الحية في المجتمع. حتى وإن اختلفت معه . فقد كان الرجل يريد التعامل مع أصحاب الرؤية والمواقف لا مع الأمعات والمخبرين الذين يقولون للمسؤول ما يرضيه وإن جانب ما يقولونه الحقيقة وابتعد عنها أميالاً.

ولأن وصفي كان يؤمن بتوظيف كل كفايات الوطن. لخدمة المشروع الوطني، فقد كان يؤمن بأن هذا التوظيف كان بحاجة إلى أدواته، وأهمها تأطير الأردنيين في أطر قادرة على استغلال طاقاتها وتوظيفها في إطار خطة شاملة ، أول مقدماتها تكامل الطاقات والإمكانيات .

فكانت فكرة الاتحاد الوطني كإطار جامع شامل لقوى الوطن يمهد لعودة الحياة الحزبية ، التي استمرت المؤامرة لعدم عودتها قوية قادرة على التأثير إلى يوم الناس هذا.

ولذلك لم يكن غريباً ولا مستغرباً أن تتم تصفية الاتحاد الوطني بعد فترة وجيزة من استشهاد وصفي التل بفعل القوى التي لا تريد أن يجتمع الأردنيون في إطار يوحد جهودهم ويجعلهم قوة مؤثرة في شؤون بلدهم.

ومثلما آمن وصفي بأن التأطير أداة مهمة من أدوات تحقيق المشروع الوطني ، عبر توظيف كل الطاقات فقد آمن كذلك بأن التثقيف وبناء الوعي عبر الإعلام صاحب الرسالة ، أداة مهمة من أدوات تحقيق المشروع الوطني.

ومسيرة الرجل في إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية والتوجيه الوطني تشهد على إيمانه بدور الإعلام في تحقيق المشروع الوطني .

كيف لا وهو رجل الفكر الذي مارس العمل الصحفي مبكراً عبر صحيفة الرأي الناطقة بلسان حركة القوميين العرب، وغيرها من وسائل الإعلام؟!. لذلك كان من همومه الدائمة عندما كان يتولى رئاسة الوزراء السعي لبناء إعلام قوي. فهو صاحب قرار دمج الصحف الأردنية عام 1966 ليشتد عودها وهو الذي سعى بعد ذلك لإصدار صحيفة الرأي لتكون لسان حال الأردنيين.

كان ذلك قبل عقود طويلة من الزمن يوم كان الإعلام سلاحاً قوياً بيد الدولة الأردنية . يدافع عن مواقفها . قبل أن يظلنا زمن صار فيه الإعلام عبئاً على الدولة الأردنية بعد أن تولى أمره من لا يؤمنون بها ولا بمواقفها. لا لشيء إلا لأن بعضهم جاء إلى موقعه بالصدفة وبعضهم الأخر نال الموقع جائزة ترضية وبعضهم الثالث لايرى في الموقع إلا مزاياه وقدرته على بناء علاقات عامة تخدم شخصه الضعيف.

ثم نقول إننا لم نخن وصفي الذي كان يؤمن بأن الولاء للوطن ولقيادته لا يتمان بالنفاق . ولكن بالنصيحة الصادقة حتى وإن كانت مرة أوجارحة .

على أن خيانتنا الكبرى لوصفي هي بهذا الصمت القاتل عن ما يجري لنا ويجري حولنا . ويهدد وطننا فميزة وصفي الكبرى أنه كان يرفض الممالأة ويرفض الصمت حتى لو كان ثمن ذلك أن يمضي شهيداً دفاعاً عن الذين خانوه فيما بعد عندما غرقوا بالصمت.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد