أيام الرعب ..

mainThumb

02-12-2007 12:00 AM

عندما كنا طلبة في كلية التجارة، جامعة الرياض ـ الملك سعود حالياً ـ في أوائل السبعينيات الميلادية، كانت كليتنا مجاورة لمبنى الاستخبارات العامة في حي عليشة بالرياض، وكان أتوبيس الجامعة، فلم يكن يملك سيارة آنذاك إلا الأثرياء، وكانوا أقل من القليل، يمر كل صباح من أمام مبنى الاستخبارات في طريقه إلى الكلية. وعلى عدد السنوات الأربع التي قضيتها في الكلية، كان كلما مر الأتوبيس من أمام مبنى الاستخبارات، كانت قلوب الطلبة تنقبض، ويبدو الرعب واضحاً على وجوههم، وهم يرددون بصوت يرجون أن لا يسمعه أحد: «أللهم حوالينا ولا علينا..»، ثم يقرأون المعوذات وآية الكرسي. تلك الأيام، بل وبعدها بكثير، كان مجرد ذكر اسم «الاستخبارات»، أو «المباحث»، يثير الرعب في الأفئدة، فقد كان الرائج عند الناس أن «الداخل عندهم مفقود، والخارج مولود». قد يكون في الأمر مبالغة بعض الشيء، ولكن لم يكن الوضع بعيداً عن ذلك حقيقة آنذاك، في مجمل واقع المخابرات العربية، فقد كان مجرد الشك، أو كلمة عابرة تأتي من هنا أو هناك، أو وشاية لا أساس لها من الصحة، كفيلة بأن تُلقي بصاحبها «وراء الشمس» كما يقولون، أو في «دار أبي سفيان»، وهو التعبير الشائع آنذاك لمن تعتقله الاستخبارات أو المباحث. ورغم أن مهمة الاستخبارات هي العمل خارج الحدود، إلا أن تنافساً كان في تلك الأيام بين الاستخبارات والمباحث العربية. وكانت أياماً تعج بالتنظيمات السرية، للحصول على أسرع النتائج.

وبالنسبة لي أنا شخصياً، فقد كان الوضع أشد رعباً، فقد دخلت «دار أبي سفيان» قبيل التحاقي بالجامعة، وأنا فتى يافع، وعانيت ما عانيت. وكلما مررت بمبنى الاستخبارات وأنا في طريقي إلى الكلية، كنت أتذكر أولئك العاملين في الجهاز، فأنتفض رعباً ومرارة في نفس الوقت. حقيقة لم تكن الاستخبارات السعودية آنذاك بمثل واقع مخابرات عربية وغير عربية أخرى، ولكنها لم تكن أيضاً تلبس قفازات من حرير.

والحقيقة أن الوضع العربي، بل ولنقل الثالثي عموماً، كان كذلك وأكثر، فقد كانت مهمة الاستخبارات والمخابرات والمباحث، هي إهدار الكرامة، وتدمير الإنسان بوصفه إنساناً، باسم حماية الدولة وأمن الدولة، بينما أكثرهم إنما كان يعزز موقعه وسلطته. فكلنا اليوم نعرف ماذا كانت المخابرات المصرية تفعل أيام حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومدير مخابراته صلاح نصر. وكلنا يعلم اليوم ما يجري في أقبية سجون المخابرات السورية، الذي لا يشابهه إلا ما كان يجري في أقبية سجون المخابرات العراقية أيام حكم الرئيس الراحل صدام حسين، وما هذه إلا أمثلة، وإلا فإن الكل في المخابرات شرق. ومن أراد أن يعرف الصورة العامة لأجهزة المخابرات العربية وما تفعله من إهدار كرامة الإنسان، سواء عن طريق فنون التعذيب المباشر، أو عن طريق الإذلال بوسائل أخرى، فما عليه سوى قراءة رائعة عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط».

وبالنسبة للاستخبارات السعودية، فأنا أعلم أنها تغيرت منذ تلك الأيام التي أتحدث عنها، ولكنه تغير ليس كالذي يخطط له رئيس الاستخبارات الجديد، الأمير مقرن بن عبد العزيز. هذا التغير، هو مؤشر لتغير في العقلية وليس مجرد إعادة هيكلة للجهاز، أو تغيرات تمس بنية الجهاز من دون المساس بالعقلية التي يُدار بها الجهاز، أو كيف يعمل. أول هذه التغيرات هو التغير في مفهوم الأمن الوطني، فبعد أن كان هذا المفهوم مقصوراً على الدفاع عن نظام الحكم، والبحث عن تلك الفئات التي تتآمر على النظام، وقد تشكل تهديداً لاستقراره، أصبح المفهوم المطروح اليوم هو أمن الوطن، والوطن شيء أعم من النظام، فالنظام لا تنتمي إليه إلا النخبة السياسية الحاكمة، أما الوطن فهو أمر يشترك فيه الجميع: الحاكم والمحكوم معاً. المعنى هنا، هو أن أمن الحاكم لا ينفصل عن أمن المحكوم، وأن أمن المحكوم لا ينفصل عن أمن الحاكم، فالجميع في النهاية في قارب واحد، إن غرق فإنه سيغرق بالجميع، ولن يستثني حاكما أو محكوما، فالكل في هذه الحالة من المواطنين. ولذلك فإن سلامة القارب بكل راكبيه، وليس سلامة من يقود القارب فقط، هي المهمة الأولى للاستخبارات، وهذا أمر ومفهوم لم يكن في الذهن سابقاً.

وثاني هذه التغيرات الموعودة والمرتقبة، هو في تغيير طبيعة العلاقة بين المواطن وجهاز الاستخبارات. فبعد أن كانت هذه العلاقة قائمة على الشك والخوف ـ شك الجهاز وخوف المواطن ـ وعلى علاقة ذات طرف واحد: طرف مُعتقِل، وآخر مُعت?Zقل، نجد أن هنالك محاولة لتغيير مثل هذه العلاقة، ووعدا بأن الثقة والشفافية والتعاون المشترك من أجل سلامة القارب هي التي ستكون الأساس. ما لا تنطق به هذه التغيرات الموعودة، ولكنه يُقرأ من العنوان، هو أن المواطن أصبحت له قيمة معترف بها، وأن مفهوم إنسانية المواطن قد دخل قاموس الاستخبارات، وهو الذي كان خالياً من مثل هذه المفاهيم، حيث لا وجود لشيء اسمه الإنسان وقيمة الإنسان.

وثالث هذه التغيرات هو التغير في مفهوم المعلومة. فالمعلومة لدى الجهاز في فترة من الفترات كانت تعني المعلومة المتعلقة بأمن النظام الحاكم فقط: مؤامرات، تنظيمات سرية، حركات فكرية «هدامة»، كما كانت تُدعى، ونحو ذلك من معلومات تدور حول محور واحد وهو أمن النخبة السياسية الحاكمة فقط. اليوم، ومن خلال تصريحات الأمير مقرن، فإن مفهوم المعلومة يجب أن يتغير، في ظل عولمة يستفيد من يعرف أسرارها، ويضيع من لا يعرف أبجديتها، فالمعرفة بذاتها قوة، والجاهل لا مكان له في عالم اليوم. قوة الأمم وأمنها يعتمدان اليوم على امتلاك المعلومة، وهذه المعلومة ليس بالضرورة أن تكون سياسية أو عسكرية، بل قد تكون اقتصادية أو تقنية أو حتى ثقافية. جواسيس اليوم ليسوا أولئك الذين يبحثون عن المعلومة العسكرية أو السياسية، بقدر ما أنهم أولئك الذين يبحثون عن المعلومة العلمية والتقنية، فعالم العولمة والقرية الواحدة، غير عالم القرى المنعزلة في السابق.

ختاماً، لم أتصور حقيقة في يوم من الأيام أن أكتب عن جهاز أمني مثل الاستخبارات، بل وكتابة إيجابية، ولكن الخطوات الإيجابية يجب أن تؤازر، وما يفعله الأمير مقرن شيء يستحق أن تُرفع القبعة من أجله، أو هو الغترة أو الشماغ في حالتنا السعودية. والحق أقول لكم، إنني كلما كتبت كلمة «استخبارات»، أشعر بالقشعريرة، فذكريات الألم تبقى وإن زال الألم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد