ماذا فعل العراق بالولايات المتحدة؟

mainThumb

30-11-2007 12:00 AM

في عام 1999 وصل إلى ألمانيا مهندس كيميائي عراقي هرباً من نظام الرئيس السابق صدام حسين. لم يدخل المهندس إلى ألمانيا بصورة شرعية. ولم يكن جواز سفره يحمل تأشيرة دخول. ولما أوقفه رجال الأمن فكّر بوسيلة لإقناع المسؤولين الألمان بعدم إبعاده عن البلاد. فادّعى أنه يعرف أسرار المصانع الكيميائية التي تُستخدم لإنتاج أسلحة الدمار الشامل. اعتقد الألمان أنهم عثروا على كنز ثمين. فجمعوا من هذا المهندس معلومات مفصلة ودقيقة حول "المصانع المتنقلة في عربات تجرّها سيارات الشحن في الصحراء". نقل الألمان المعلومات إلى حلفائهم الأميركيين الذين أبدوا اهتماماً كبيراً بها. وطلبوا مقابلة العالِم العراقي. إلا أن الألمان رفضوا السماح لهم بالاجتماع إليه مباشرة، واكتفوا بتزويدهم بمعلومات انتقائية مما يحصلون عليه منه.
وعلى أساس هذه المعلومات بن?Zتْ الولايات المتحدة سياستها بغزو العراق. فقد أعدّ تقرير استخباراتي سرّي رُفع إلى الرئيس جورج بوش في شهر أكتوبر الأول من عام 2002، يؤكد لأول مرة أن العراق يملك أسلحة كيميائية ذات قدرة على التدمير الشامل. وقد اعتمد الرئيس الأميركي على هذا التقرير ليعلن بنفسه في خطابه السنوي عن "حالة الاتحاد" الذي ألقاه في يناير 2003 "أن العراق يملك مصانع نقّالة مخصصة لإنتاج أسلحة جرثومية". وهو ما سبق للمهندس العراقي أن نقله إلى الألمان. ومما عزّز من صحة معلوماته الصور التي التقطتها طائرات التجسّس الأميركية لشاحنات عراقية متوقفة وسط الصحراء تجرّ خلفها حاويات وصفت بأنها مصانع كيميائية وجرثومية. أطلق الألمان على عميلهم العراقي اسماً مستعاراً هو "كيرفبول". وأولوه اهتماماً كبيراً كما خطط هو نفسه لذلك منذ البداية، واحتفظوا به في "حصن حصين" بعد أن أغدقوا عليه كل أنواع المساعدات والهبات والإكراميات.

لم يشك أو يشكك أحد في صحة معلومات "كيرفبول". فقد تعامل الجميع معها وكأنها نصّ مقدس. فالألمان أصبحوا بالنسبة للأميركيين مصدراً مهماً للمعلومات التي تبني عليها الولايات المتحدة سياستها الخارجية في الشرق الأوسط عامة وفي العراق تحديداً. ذلك أنه بعد الفشل الذريع الذي منيت به أجهزة المخابرات الأميركية التي عجزت عن جمع المعلومات المتناثرة التي توفرت لها قبل وقوع الهجوم على نيويورك وواشنطن في 11/9/2001، باتت (هذه الأجهزة) في حاجة ماسة إلى استعادة صدقيتها لدى صاحب القرار الأميركي في البيت الأبيض. وقد وجدت في المعلومات المتدفقة من "كيرفبول" عبر ألمانيا ضالتها المنشودة. فتعاملت معها بجدية مطلقة من دون أن تحمّل نفسها عناء التحقق من صحتها. إلى أن اكتشف الأميركيون في عام 2004، أي بعد عام من حربهم على العراق، أن كل المعلومات التي حصلوا عليها كانت كاذبة ومختل?Zقة ولا أساس لها من الصحة. وأن الهدف الوحيد لـ"كيرفبول" من وراء اصطناعها كان لمجرد التأثير على المسؤولين الألمان حتى يمنحوه حق اللجوء السياسي! وقد اعترفت الـ"سي.آي.إيه" بعد فوات الأوان بأن "المهندس العراقي استطاع أن يخدعها -وأن يخدع الألمان قبلها". يروي قصة "كيرفبول" كتاب جديد للمؤلف الأميركي بوب دروغين. ويحمل الكتاب عنوان: "كيرفبول: الجواسيس، الأكاذيب، والرجل الذي تسبّب بالحرب". فهل صحيح أن المهندس العراقي تسبب فعلاً بالحرب الأميركية على العراق.. أم أنه ركّب معلومات من النوع الذي كان الأميركيون يريدونه لتبرير حربهم المقررة سلفاً على العراق؟ يقول الكتاب: "صحيح أن كيرفبول جمع بين الحقيقة والخيال فيما قدمه للألمان وعبرهم إلى الأميركيين، ولكن غيره -أي المخابرات الأميركية- حوّرت وضخّمت تقاريره بصورة كبيرة ومتعمدة". لقد كان المهندس العراقي (الذي لا يذكر الكتاب شيئاً عن مصيره بعد افتضاح أكاذيبه) فناناً في رسم صورة من المعلومات حول ما كان يعرفه فعلاً.. وحول ما كان يتصوره أو يتخيله عن بعد، ليقدمها إلى أجهزة المخابرات الألمانية من أجل إثارة اهتمامها وكسب ودّها.

ويبدو أن المخابرات الأميركية عندما تلقّت هذه الصورة كانت مقتنعة بأن فيها ما يعزز توجهها نحو اتهام العراق بإنتاج أسلحة جرثومية وكيميائية لتبرير القرار السياسي باجتياحه على النحو الذي اكتشف فيما بعد. ثم إن هذه الأجهزة المخابراتية الأميركية التي ارتكبت خطأ الفشل في تجميع المعلومات التي توفرت لديها عن جريمة سبتمبر 2001 قبل ارتكابها، ارتكبت خطيئة الفشل في التحقق من صحة معلومات مهندس مضطهد كان يبحث عن أي وسيلة للحصول على حق اللجوء السياسي في ألمانيا. رغم ذلك، فان "قصة كيرفبول" كما يرويها المؤلف بوب دروغين، تعطي المهندس الكيميائي العراقي مسؤولية: تضليل المخابرات الألمانية. وتضليل المخابرات الأميركية. والتسبّب في الحرب الأميركية على العراق. فهل يعقل أن يتسبّب رجل واحد في كل هذه الكوارث؟

في شهر يوليو من العام الجاري 2007 -وجّه 34 قيادياً من قادة الكنائس الإنجيلية الأميركية مذكرة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش، قد تكون الأولى من نوعها في تاريخ العلاقة الوطيدة والمؤثرة بين البيت الأبيض وهذه الكنائس. تدعو المذكرة الرئيس الأميركي إلى نظرة متوازنة للصراع الإسرائيلي- العربي بدلاً من التأييد اللامحدود واللامشروط الذي تقدمه الولايات المتحدة إليها مادياً وعسكرياً وسياسياً، وبصرف النظر عن أخطائها وانتهاكاتها للمواثيق والمعاهدات والقرارات الدولية. وتعكس هذه الدعوة تحوّلاً مهماً جداً عن الثوابت الدينية التي كانت تلتزم بها هذه الكنائس الإنجيلية. وفي مقدمتها الإيمان بأن وجود إسرائيل هو تعبير عن الإرادة الإلهية، وأن دعمها دون حساب يوفّر البركة الإلهية للولايات المتحدة ذاتها. أما المظهر الآخر لهذا التحوّل المهم الذي تكشف عنه هذه المذكرة الإنجيلية فيبدو من خلال إقرارها بأن الحرب على العراق (التي تكلف دافع الضرائب الأميركي ثلاثة مليارات دولار كل أسبوع كما جاء في المذكرة أيضاً) يتحمل مسؤوليتها إلى حد كبير الولاء الأميركي المطلق لإسرائيل. وكأن المذكرة الإنجيلية تريد أن تقول للرئيس الأميركي أن لا مصلحة في الأساس للولايات المتحدة بغزو العراق. وأن المصلحة في الغزو كانت لإسرائيل وحدها. وأن الولايات المتحدة ما قامت بالغزو إلا لأنها تعتبر أن الغزو يخدم المصلحة الإسرائيلية.

لا يعني ذلك بالضرورة أن انقلاباً قد طرأ على المواقف المبدئية للحركة الإنجيلية الأميركية، فهناك قادة إنجيليون لا يزالون يتمسكون بمواقفهم السابقة، ولعل أشهرهم اليوم بعد وفاة جيري فولويل هو القس "جون هاغي" الذي لا يدعو فقط إلى مواصلة احتلال العراق، ولكنه يدعو أيضاً إلى توجيه ضربة عسكرية شديدة إلى إيران، بحجة أن إيران تهدد إسرائيل نووياً، وأنها تريد إزالتها عن الخريطة (تصريح الرئيس أحمدي نجاد). غير أن المذكرة الكنسية تشير إلى بداية تحوّل أساسي وجذري في توجه الحركة الإنجيلية الأميركية التي كانت وراء فوز الرئيس جورج بوش مرتين بالرئاسة الأميركية. وهو تحوّل يمكن أن يؤدي إلى تغييرات جذرية وعميقة في السياسة الخارجية الأميركية من قضايا الشرق الأوسط عامة، ومن القضية العراقية تحديداً.

فالكنائس الإنجيلية لم تكن مصدر دعم انتخابي للرئيس الأميركي ولإدارته فقط، ولكنها كانت وهذا الأهم، مصدر إلهام ديني لقرارات الرئيس السياسية فيما يتعلق بإسرائيل وبالصراع العربي- الإسرائيلي. وكان دورها ينطلق من الإيمان بأن إسرائيل دائماً على حق لأنها إرادة إلهية. أما اليوم فإن مذكرة الـ34 أسقفاً إنجيلياً تقول إن إسرائيل يمكن أن تكون على خطأ. وإن احتلال العراق كان خطأ. وإن على الولايات المتحدة ألا تنغمس في الأخطاء الإسرائيلية وأن تكون سياستها جزءاً منها، بل عليها أن تساعد إسرائيل على تصحيح أخطائها. وهذا في حد ذاته بداية للتحول الذي لابد أن تترتب عليه نتائج سياسية مهمة على المدى البعيد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد