رجال أعمال وساسة !

mainThumb

02-10-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان
من حيث المبدأ، يجد كثير من الناس، وأنا منهم، أن هناك حاجة ملحة وضرورية، أخلاقياً ووظيفياً، لترسيم الحدود على نحو دقيق بين كل من عالمي السياسة وعالم الأعمال؛ إذ إن هناك تعارضاً جلياً من حيث المنطلقات والغايات بين العالمين. ففيما هو مفترض، نظرياً على الأقل، يسعى ويعمل رجل السياسة على خدمة الناس وإدارة شؤونهم لما فيه الصالح العام لهم وللمجتمع، أما رجل الأعمال، فإنه يهدف ويشتغل أساساً من أجل تأمين منافعه ومنافع شركاته وأعماله هو في المقام الأول والأخير، دون أن يكون معنياً كثيراً بالالتفات إلى مصالح الناس، التي لا يندر أن يضرب بها عرض الحائط إذا ما تعارضت مع مصالحه الشخصية. ومن أبرز الشواهد على صحة هذا الزعم، استنكاف معظم رجال الأعمال العرب عن التخلي عن جزء ولو يسير من أرباحهم الهائلة في سبيل تنمية مجتمعاتهم ونفعها، إلا تحت مظلة الاستثمار الدعائي والإعلامي والترويجي لخدمة مشاريعهم الربحية، فضلاً عن ضغطهم المتواصل الخانق على الحكومات من أجل دفعها إلى تلفيق التشريعات التي تضمن حماية مصالحهم وتدعيم مكتسباتهم الأنانية على ظهور الناس!
إننا لا كاد نجد على المستوى العربي نماذج كثيرة نجحت في مجال الأعمال، ثم انتقلت إلى مجال السياسة وسجلت نجاحات يعتد بها فيه، دون أن تتلوث بكثير من ممارسات الفساد والإفساد، واستغلال السلطة لتعزيز أنشطتها التجارية وتضخيم ثرواتها. أما العكس فهو شائع على نحو ملحوظ، إذ غالباً ما يذهلنا الكثير من رجال السياسة بإحراز نجاحات عملية مهولة في أسواق المال والأعمال بعد أن يتركوا العمل العام، ليس بسبب عبقرياتهم الفذة بالطبع، التي لم نكد نشهد شيئاً منها في أدائهم الحكومي المترهل، ولكن لأنهم كانوا يعدون العدة لذلك أثناء عملهم الرسمي على الأرجح، وكانوا يستغلون سلطاتهم ونفوذهم لإنشاء وخدمة شركات وبنوك ومشاريع خاصة، كمقدمة لإيجاد مواطئ أقدام لهم إذا ما لفظتهم أرض السياسة المتقلقلة، أو حتى وهم ما يزالون يلعبون في مضمارها، عن طريق توكيل الأبناء والإخوة والزوجات والأصهار! بعبارات أخرى، أظن أن بإمكاننا القول إن السياسة أرض عامة خصبة وفيرة المياه، والأعمال أرض خاصة عطشى تتطلع إلى المزيد من الارتواء، ليصبح السؤال الأهم المشروع طرحه كالتالي: هل يمكن للواقف على تلك الأرض الخاصة، أن ينتقل إلى الأرض العامة دون أن يجيّر ذلك الانتقال لصالح إنعاش أرضه النهمة!؟
لو أجرينا على سبيل الافتراض استطلاعاً موضوعياً نستقصي فيه اتجاهات المواطن العربي من المحيط إلى الخليج نحو رجال الأعمال، لوجدنا، فيما أزعم وأتنبأ، ومزاعمي وتنبؤاتي لا تستند قطعاً إلى مجرد تنظير خيالي بل إلى مؤشرات عيانية يلاحظها الجميع، أن الأغلبية الساحقة من الناس لا تثق بالمنخرطين في إدارة دنيا الأعمال، وتجد في معظمهم مجرد "حيتان" لا يتورعون عن فعل أي شيء، وكل شيء، من أجل تعظيم مكاسبهم وامتيازاتهم، حتى وإن كان ذلك على حساب السواد الأعظم من مواطنيهم. بالمناسبة، الاستطلاعات التي يجريها مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية سنوياً حول اتجاهات المواطنين نحو الديموقراطية تقول بشيء قريب من ذلك، فأغلبية المستجيبين عاماً إثر آخر، وبوتائر متصاعدة، يعتقدون أن السياسات الحكومية لا تصاغ وتنفذ من أجل تحقيق الصالح العام، بل من أجل تأمين مصالح فئات محددة متنفذة. يقال هذا في بلد متضعضع الاقتصاد كالأردن، الذي بت تشهد فيه التحاماً عضوياً وثيقاً ومريباً بين أرباب السياسة وأرباب الأعمال!
وفي الأردن، يرجح بعض المصادر تكليف "سمير الرفاعي"، وهو ابن رئيس وزراء وحفيد رئيس وزراء، بتشكيل الحكومة الأردنية الجديدة. والرجل رجل أعمال بامتياز، فهو يحظى برئاسة وعضوية مجالس إدارة العديد من الشركات المهمة في الأردن والإمارات العربية المتحدة، كشركة الأردن دبي كابيتال؛ وشركة الأردن دبي لاستثمارات الطاقة والبنية التحتية؛ وشركة إنارة لخدمات الطاقة؛ وشركة الثقة للاستثمارات الأردنية؛ وشركة سرايا العقبة ...الخ؛ ما يجعلنا نخشى أن تكون تجربته في رئاسة الوزراء مجرد مثال آخر يؤكد صحة نظريتنا المشار إليها، التي لا تثق كثيراً بأهلية رجال الأعمال للتطفل على المجال السياسي!
غير أن مما يخفف القلق أن للرجل سجلاً أكاديمياً متميزاً في المجال السياسي، فهو حاصل على درجة البكالوريوس في الدراسات الشرق أوسطية من جامعة هارفرد الشهيرة، وعلى درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كامبريدج العريقة. ونرجح أن تكون الحصيلة المعرفية الثرية التي حصّلها الرفاعي الابن في تلك الجامعات المرموقة قد وجدت طريقها للنضج والتبلور عن طريق المناصب السياسية الرفيعة التي سبق وأن تقلدها، كمستشار للملك عبدالله الثاني، ووزير للبلاط الملكي، وأمين عام للديوان الملكي، ومدير للمكتب الإعلامي ودائرة العلاقات العامة في الديوان الملكي، ورئيس للجنة تشجيع الاستثمار في الديوان.
والرجل أيضاً سليل عائلة سياسية عريقة، فقد تربى بين دهاليز السياسة وتقاطعاتها، وقد يشكل ذلك نقطة تصب في رصيده أيضاً؛ إذا ما أحسن توظيف الخبرات التي ورثها عن عائلته "الأرستقراطية" في التعامل مع الملفات السياسية والاقتصادية الشائكة التي تتطاير في الفضاء الأردني، دون ان يتورط بتقليد السياسات التي أسهمت في إيصال البلاد إلى الأزمة الاقتصادية الشهيرة التي كابدها الأردن في نهايات عقد الثمانينات من القرن الماضي إبان ترؤس والده "زيد الرفاعي" للحكومة. وننوه هنا بأن الانتماء الأرستقراطي لا يشكل بكل تأكيد سبة أو مثلبة على أصحابه، ما لم يجرفهم إلى الكبر والغرور وعدم الإحساس بمشاعر بقية عباد الله البسطاء، ونرجو أن يكون الرئيس الجديد ممن تقلقهم حقاً معاناة البسطاء.
نأمل فعلاً أن يشكل الرجل ـ في حال تشكيله الحكومة بالفعل ـ استثناءاً فعلياً وخرقاً مفاجئاً للقاعدة، فيقوم باجتراح المعجزة في زمان ضنين بالمعجزات، ليعيد إلينا بعض الأمل بأن هناك إمكانية لأن يلعب رجل الأعمال دور رجل السياسة بمستوى رفيع من النزاهة والإبداع والإنجاز، دون أن ينظر إلى حقل السياسة وكأنه مزرعته الخاصة التي ورثها عن أبيه! فهل ينجح "سمير الرفاعي" في أن يقنعنا بأن سياسة توريث المناصب الحكومية ـ سيئة السمعة ـ ليست دائماً أمراً سلبياً ومنكراً، وأنها قد تكون أحياناً أفضل بكثير من انقضاض بعض محدثي النعمة من السماسرة والمرتزقة والأفاقين على مواقع السياسة وصنع القرار!؟ نعلّق الإجابة لفترة قد لا تزيد عن سنتين، فهذه عموماً هي المدة القصوى التي تحلم الحكومات في الأردن بأن تعيشها، وما أشد الحاجة إلى أن تبدي الحكومة الجديدة من النظافة وحسن الأداء ما يجعلها جديرة بأن تظل على قيد الحياة مدة تزيد عن سن فطام رضّع الأطفال!
sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد