الذهب بين اضطراب العالم وسيناريوهات المستقبل

mainThumb

12-06-2025 12:07 AM

في خضم التغيرات الجيوسياسية المتسارعة، وأمام المشهد الاقتصادي العالمي الهش، لم يعد الذهب مجرد ملاذ آمن، بل تحوّل إلى مرآة تعكس ارتباك العالم، فمن الشرق الأوسط المشتعل في غزة، إلى الحرب الروسية الأوكرانية، إلى تصاعد التوتر بين الصين وأمريكا، كل ذلك يدفع المستثمرين إلى البحث عن الأمان في أصل لا تخلقه البنوك المركزية ولا يتحكم به أحد، وهو الذهب.

منذ سنوات، هيمن على الاقتصاد العالمي ملامح التحول الكبير؛ فبعد جائحة كورونا وما تلاها من طفرات تضخمية وسياسات نقدية متشددة، دخلت الأسواق مرحلة شك مزمن، البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي، رفعت معدلات الفائدة إلى مستويات تاريخية، لكنها في المقابل لم تستطع كبح التضخم بشكل حاسم، هذا الواقع دفع كثيرين إلى التساؤل: هل الذهب سيبقى أصلًا مستقراً في بيئة الفائدة المرتفعة؟ الإجابة جاءت مغايرة للتوقعات التقليدية، إذ واصل الذهب تسجيل قمم تاريخية، متغذّيًا على القلق من انهيارات محتملة في النظام المالي العالمي.

صنّاع السوق، اللاعبون الكبار في الظل، يدركون متى يهرب الجميع من الأسواق، ومتى يدخلون لاقتناص الفرص. تمامًا كما حدث في 23 مارس 2020، حين انهارت الأسواق على وقع تفشي كورونا، فإذا برؤوس الأموال تتدفق فجأة وتبدأ عمليات شراء ضخمة، أعادت الحياة إلى المؤشرات العالمية، وبثّت أوهام الثقة من جديد، لم تكن تلك الصدفة بريئة، بل كانت مشهدًا منسقًا في لعبة أكبر، يتحكم بها من يملكون مفاتيح السيولة في العالم، الذهب في هذا السياق يصبح أحد أدوات التحوّط التي لا تخضع تمامًا لمنطق السوق، بل لدهاء من يعرفون كيف تُدار المخاطر ويُعاد تشكيل الثروات في لحظات الأزمات.

مع استمرار الحرب في أوكرانيا، ومخاوف التمدد الروسي، وتهديدات العقوبات الغربية، لا يبدو أن أوروبا ستخرج من تبعات هذا الصراع قريبًا، ما يضفي المزيد من القلق على أسواق الطاقة والسلع. في المقابل، تقف الصين وأمريكا على حافة نزاع اقتصادي طويل الأمد، يتجلى في القيود التكنولوجية، والضغوط التجارية، وسباق النفوذ الجيوسياسي في آسيا وأفريقيا، وإذا نظرنا إلى مؤشرات النمو في قطاع الخدمات، كما تُظهره تقارير الـPMI، فإن التباطؤ واضح في كثير من الاقتصادات الكبرى، ما يعزز احتمالات الانكماش، ويدفع المستثمرين أكثر نحو الذهب.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أحد العوامل الخفية التي قد تدفع الذهب إلى مستويات غير مسبوقة: الحاجة المتزايدة للسيولة من قِبل البنوك المركزية والمؤسسات المالية في النصف الثاني من عام 2025، ففي ظل احتمالية حدوث أزمة مالية، لن يكون الذهب فقط ملاذًا استثماريًا، بل سيكون أداة توازن في ميزانيات البنوك المركزية المتخوفة من انهيارات ائتمانية أو تقلبات عملات مفاجئة، مع ارتفاع مستويات الدين العالمي، وانكشاف بعض البنوك أمام قروض مشكوك في تحصيلها، تصبح أزمة الثقة في النظام المالي أمرًا واقعيًا أكثر من مجرد تخمين أكاديمي.

كل ذلك يطرح تساؤلًا بالغ الأهمية: هل نحن أمام فقاعة ذهب؟ من الناحية التقنية، لم تصل الأسعار بعد إلى مرحلة الفقاعة، لكن سيكولوجيا يشير السوق إلى أن كثيرًا من المتداولين الأفراد بدأوا الدخول بدافع الهلع والطمع، لا بدافع التحوط العقلاني. وهنا تبرز مقارنة تاريخية مهمة: ففي عام 2011، شهدنا فقاعة ذهب شهيرة وصلت فيها الأسعار إلى قرابة 1,920 دولارًا للأونصة، مدفوعة بموجة من الذعر بعد الأزمة المالية العالمية، ثم ما لبثت الأسعار أن تراجعت تدريجيًا على مدى سنوات، مخلفة وراءها خسائر لمن اشترى في الذروة. هذا السيناريو ليس ببعيد إذا ما فقد السوق توازنه مجددًا تحت ضغط المضاربة والخوف الجماعي، وقد تكرر الصورة نفسها إذا تعاظمت شهية المخاطرة على حساب الحكمة الاقتصادية.

في ضوء المعطيات الحالية، يمكن أن الذهب لم يبلغ ذروته بعد، فالتضخم العالمي لا يزال مقلقًا، ومعدلات الفائدة الأمريكية مرشحة للبقاء مرتفعة لفترة أطول مما توقعت الأسواق، ما سيُبقي الضغط قائمًا على أدوات الدين ويزيد من جاذبية الذهب كأصل غير عائد لكنه أكثر أمانًا، ومع استمرار التوترات في الشرق الأوسط (خصوصًا العدوان على غزة) وتصاعد الحرب الباردة بين أمريكا والصين، وتفاقم الحرب الروسية الأوكرانية، واحتمالية دخول الاقتصاد العالمي في أزمة مالية جزئية أو كلية مع نهاية 2025، فإن التوقع الواقعي لسعر الذهب هو أن يختبر مستويات 3,500 دولار للأونصة، وربما يتجاوزها في حال اتسع نطاق التوترات أو شهدنا انهيارًا في أحد القطاعات الحساسة كالائتمان أو العقار.

لكن لا بد من الحذر: فقاعات الذهب ليست مستبعدة، خاصة إذا دخل مستثمرو التجزئة والمضاربون بقوة بدافع الخوف والطمع، وهنا يصبح السؤال ليس فقط كم سيرتفع الذهب، بل متى تنفجر فقاعة الذهب، وهذا ما سيحدده الزمن وسلوك صنّاع السوق.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد