الخامس من حزيران

mainThumb

11-06-2025 03:03 AM

تمرّ ذكرى مؤلمة وجارحة لأمتنا العربية، ذكرى عدوان الخامس من حزيران/يونيو عام 1967، ذلك العدوان الذي لم يكن حربًا بالمفهوم العسكري، لأنه لم تجرِ حربٌ بالمعنى الحقيقي، بل كان هجومًا همجيًا غادرًا، شاركت فيه أطراف عدة، في مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي الذي خدع أميركا، إلى جانب أنظمة عربية وُصفت بـ"المعتدلة" لدى أمريكا. وقد انتهى هذا العدوان – للأسف – باحتلال ما تبقى من فلسطين، إضافة إلى سيناء المصرية والجولان السوري.

كان الهدف الأساسي لذلك العدوان هو اصطياد "الديك الرومي"، أي الرئيس جمال عبد الناصر، أو على الأقل إسقاط هيبته. وقد كانت تلك هي "كلمة السر" بين أمريكا والكيان الصهيوني، لضرب المشروع القومي العربي التحرّري الذي قادته مصر في تلك المرحلة. رأت فيه واشنطن ولندن، وكلبهما الحارس الكيان الصهيوني، خطرًا على مصالحهم، وهو ما أثبتته الوثائق والتقارير التي رُفعت عنها السرية بعد عقود، وكذلك مذكرات المسؤولين في دول العدو.

ولعل أبرز من وصف تلك الحرب بدقة شديدة، الزعيم الفرنسي شارل ديغول، في رسالته إلى الرئيس عبد الناصر، إذ قال إن "تلك المعركة كانت أمريكية منذ البداية وحتى النهاية، نُفّذت بأيدٍ صهيونية". بل أكثر من ذلك، فإن أحد أشهر حكّام "عرب الاعتلال"، كما وصفهم الأمريكيون أنفسهم، كان قد وجّه رسالة للرئيس الأمريكي ليندون جونسون – أحد أكثر رؤساء أمريكا انحيازًا للصهيونية – يطالبه فيها بدعم "ضربة خاطفة" تشنها إسرائيل ضد مصر، بهدف احتلال جزء من أراضيها وإسقاط جمال عبد الناصر، أو على الأقل إذلاله ودفعه لسحب جيشه من اليمن.

ذلك الحاكم حرّض كذلك على سوريا والعراق، وحرّض تحديدًا على دعم الانفصاليين الأكراد. ولم يكن وحده في ذلك، فقد شاركت أنظمة عربية أخرى في دعم العدوان لوجستيًا، كما كشفت تقارير صهيونية وإسرائيلية، وبعض تلك الأنظمة تحوّلت لاحقًا إلى مجرد مخبر يخدم العدو، في سبيل القضاء على حركة المد القومي بقيادة مصر الناصرية.

وبعد سنوات من رحيل عبد الناصر، ظهرت محاولة أخرى لتشويه تلك المرحلة، حين دعمت إحدى تلك الدول فنانة فاشلة لتكتب ما سمّته "مذكراتها"، وامتلأت بالكذب. كذّب تلك الادعاءات معظم أهل الفن والسياسة، حتى ممن كانوا مختلفين مع عبد الناصر، باستثناء من كانت لهم خصومات شخصية تتعلق بصراع على السلطة، كالإخوان مثلاً. وقد هدف هذا التشويه إلى ضرب الثورة التي غيّرت وجه المنطقة، والطعن بجهاز مخابراتها القوي آنذاك.

لم يكن الغرض من هذه المذكرات فقط التشهير، بل كان جزءًا من الحرب غير الأخلاقية التي شُنّت على عبد الناصر بعد وفاته، وشاركت فيها المخابرات الأمريكية وأنظمة عربية. وقد صرّح السناتور الأمريكي جون ماكين لاحقًا قائلًا: "لا نريد أن يظهر جمال عبد الناصر آخر في الوطن العربي".

وفي حوار مطول بين الصحفي الكبير عبدالله إمام ومدير المخابرات المصرية الأسبق صلاح نصر – رحمهما الله – سأله إمام عن تلك الفنانة ومذكراتها، فأجاب نصر أن الفنانة عملت بإرادتها الكاملة مع المخابرات، وكانت تتلقى راتبًا ثابتًا في البنك الأهلي المصري. وأضاف: "لو سمحت لي الدولة، لكشفت أكثر، فهناك دولة أصبحت اليوم ذات نفوذ كبير، تتدخل في شؤون الدول، كانت وراء نشر تلك المذكرات، وقدّمت دعمًا سخيًا لها مقابل كل حرف كتبته، لتدمير نفسها، والإساءة إلى وطنها".

كما ظهر كتاب آخر بعنوان "وتحطّمت الطائرات عند الفجر"، لمؤلف يدعى باروخ نادل، زعم فيه أنه ضابط "موساد" اخترق مصر. يقول كاتب هذه السطور إنه بحث عن الكتاب وقرأه، لكنه لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به. وقد وُزّع هذا الكتاب – رغم تفاهته – مجانًا في شوارع بيروت عبر سفارات عربية، واسم المؤلف – على الأرجح – وهمي، وهو من صناعة مخابرات عربية. وقد أُجريت بروباغندا إعلامية واسعة لهذا الكتاب بهدف الإساءة لثورة يوليو وقائدها.

تلك البروباغندا الساذجة ذكّرتني بمشهد من فيلم مرجان أحمد مرجان للفنان الكبير عادل إمام، حين اشترى كتاب شعر فارغًا ليدّعي الثقافة، فطلب عمل بروباغندا له دون توزيعه، وحرص على شراء كل النسخ! وهكذا فعلت تلك السفارات، طبعت الكتاب المزعوم ووزعته رغم تفاهته.

للأسف، هذه هي حال كل معارك "طواحين الهواء" التي تُشنّ على عبد الناصر، وهو الذي رحل عن الدنيا منذ 55 عامًا، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه. لكن ما يقلق أعداءه، أن الشعوب العربية – رغم النكسة – أصرت على عودته بعد إعلان التنحي، وعندما رحل، شيّعته الملايين من مصر وكل أرجاء الوطن العربي.

وتبقى نكسة حزيران ضربة موجعة لآمال الأمة العربية وطموحاتها. وقد تحوّل الخامس من حزيران، للأسف، إلى يوم للبكاء والنواح المصطنع، وكأن هذه الأمة خُتمت بختم الهزيمة الأبدية.

ورغم ذلك، جاءت معارك الاستنزاف – أو حرب السنوات الثلاث كما أسماها قائدها الفريق أول محمد فوزي – ثم معركة الكرامة في الأردن، التي سطّرها الجيش العربي الأردني والفدائيون الفلسطينيون، تلتها حرب أكتوبر المجيدة، التي خانتها السياسة، إذ وضعت كل أوراقها في يد أمريكا، الواجهة الأخرى للكيان الصهيوني. ولو كانت السياسة بمستوى أداء السلاح، لتغير وجه المنطقة.

لكن، تبقى النكسة خسارة معركة، لا نهاية صراع. وفلاسفة الهزيمة وكتّاب البترودولار ينشطون هذه الأيام لبثّ سمومهم، وجعل النكسة نهاية للقضية العربية، لكنها لم تكن كذلك ولن تكون.

رحم الله شهداء الأمة العربية في تلك النكسة، وأتشرف – أنا كاتب هذه السطور – بأن شقيقي الأكبر "عبدالله" كان أحد شهداء تلك الحرب، في صفوف الجيش العربي الأردني، واستُشهد في اليوم التالي لاندلاعها، كما فعل المئات من زملائه.

تبقى النكسة – رغم كل الأقلام المأجورة – عدوانًا غادرًا، وحالة استثنائية، وليست قاعدة كما يريد الخونة تصويرها. فالتاريخ سلسلة من الدروس والعبر، والهزيمة الحقيقية ليست خسارة الأرض، بل الاستسلام وفقدان الإرادة. وطالما بقيت المقاومة، بقيت الكرامة والحضور. وإن كان الفيلسوف الألماني "كانط" قال: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، فنحن نقول: "نحن نقاوم، إذًا نحن موجودون"… ولا عزاء للصامتين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد