حوادث السير .. جراحات وآلام

mainThumb

24-01-2010 12:00 AM

د:حسن فالح البكور

في غمرة الأفراح بنجاح أبنائنا في الثانوية العامة, وبتخرُّج الآخرين من الجامعات ,وما يتبع ذلك من أغان وأسمار والعاب نارية وتوزيع للحلوى واحتساء للقهوة العربية, وأحاديث الفرح والسرور الجانبية على هامش الحفلات , يقتحم ذلك المجلس السعيد وتلك الليلة الجميلة صوت غريب ونداء حزين وإذا به ينفرط في الأحضان: محمد دهسته سيارة , ويتشعب اللقاء, ويتفرق المجلس ,ويتحرك الجميع إلى المستشفى,ولا تصمت الهواتف النقالة, وغرفة العمليات والعناية المركزة مقصد الجميع ومحط الأنظار , والقريب والبعيد في حيص بيص . معقول؟ مات محمد أم جراحه خطرة , ما زال على قيد الحياة , انه في الرمق الأخير , ما زال قلبه ينبض بالحياة , وهنا في ساحة المستشفى, يخرج الطبيب المناوب, ليواجه الجمهور بالحقيقة المرة : عظّ?Zم الله أجركم , لله ما اخذ , ولله ما أعطى .

وتنقلب الأفراح إلى أتراح , وفي المكان نفسه الذي ضمّ?Z بالأمس الأحبة والأصدقاء على مائدة الفرح , المكان نفسه يتحول إلى مجلس للعزاء, وفيه الأحبة والأصدقاء أنفسهم , ولكن يجمعهم الم وحزن واحد ,يحتسون القهوة نفسها والشاي , ولكن طعمها ممزوج بالحسرة والقلق والألم . فسبحان الله الواحد الأحد , كيف يغير الأمور من حال إلى حال ولا يتغير .

ذلك جانب من المأساة يحدث هنا , ونسمع مثالا أخر يحدث هناك, تتقطع من هو له القلوب ذلك الذي غيّ?Zب فيه الموت أفراد أسرة واحدة تتألف من أربعة أفراد, وبقي طفل صغير على قيد الحياة , والسبب في ذلك اصطدام هذه المركبة بمركبة أخرى, كان يقودها شاب طائش يسير بسرعة جنونية وكان يعبث بهاتفه النقّ?Zال .

ونشاهد تارة أخرى على شاشة التلفاز مركبة استقرّ?Zت بقاع الوادي, وتمزّ?Zق?Z من فيها إربا إربا , وتناثرت أجسادهم كحبات الخرز المنفرطة على الأرض , ولم يهتد احد إلى التعرف على هويات من فيها, وفي موقع آخر من مواقع وطننا العزيز, يستقلُّ طفل صغير سيارة والده في غفلة منه , ويعبث بها فتسير به إلى ما شاء الله ,فيلقى حتفه ويختلط دمه ولحمه بالحديد ، ويستيقظ الأهل على صيحات الجيران ، وينادي الجميع أن هيا ننقذ الطفل الصغير ، ولكن هيهات هيهات ، رحل الطفل وغاب عن الأنظار البريء. وهكذا تتكرر هذه المشاهد الدموية ، مسارحها شوارعنا الداخلية والخارجية ، وضحاياها عائلات واسر ، أطفال وشباب وكهول ، ورجال ونساء ,وأثارها جراحات وآلام وأحزان ، وأموات وجرحى وذوو احتياجات خاصة مقعدون ، واستنزاف للموارد الاقتصادية والمادية ، يتحمل تبعاتها أولا وأخيرا هذا الوطن الجريح ، وعلى شاشات الفضائيات توجيهات ونصائح وإرشادات من أصحاب القرار ، ومتابعات في الميدان من ذوي الاختصاص : دوريات وكاميرات ورادارات ومخالفات وحجز رخص السيارات ، وغرامات ، ولكن لا حياة لمن تنادي .

إن الأسباب وراء هذه الحوادث المأساوية لاتحتاج إلى اجتهاد وعمق في التحليل ، لأنها واضحة للعيان ، وأركانها ثلاثة : الشارع والمركبة والسائق ، شوارعنا على الأغلب تتنافى والمواصفات العالمية ، فالإضاءة معدومة ، والحفر كثيرة ، والمطبّ?Zات جبلية ، والبرك المائية فيها عديدة ، وأما المركبة فقد تكون ركاما من الحديد وهيكل سيارة ، وعجلاتها من مخلفات الحرب العالمية ، تسير ليلا واضويتها شبه معدومة ، وأما السائق فقد يحمل رخصة سيارة ولا يعرف أيجديات القيادة, قريبه أوقعه في ظلم الواسطة ، فكانت رخصة موت لا قيادة ، وقد تكون رخصته بجدارة, ولكن صاحبها تجرّ?Zد من الذوق وأخلاق القيادة ، فتاه في الغرور فكانت المأساة في النهاية ، ولربما الذوق الغليظ لديه يدفعه إلى تحويل السيارة إلى طيارة والتلفاز بمحاذاته كأنه في غرفة ضيافة ، والجوال بيده يعبث بالصادر والوارد من الرسائل وأحيانا يضيع في أحلام السعادة ,وينام خلف مقود السيارة, كأنه في حجرة النوم المعتادة .

وفي ظلال هذه الحوادث الدامية التي ندفع فاتورتها كل يوم من أرواحنا واعز أحبتنا ، لا يسعنا إلا أن نبعث بصرخات واستغاثات إلى أصحاب القرار والمسولين ونقول لهم : بارك الله في جهودكم الخيرة ، تلك الجهود التي نلمسها ونشاهد أفعالها بأم أعيننا من خلال تكثيف الرقابة الأمنية على الطرق الخارجية والداخلية ،

ونرجو إخواننا في الدوريات الخارجية ألا تأخذهم الشفقة بمستهتر في القيادة وبأرواح الأبرياء ، فالأمانة تقتضي ردع المتهورين والطائشين والضاربين بالقوانين عرض الحائط ، ونبعث نداء عاجلا إلى أصحاب الجاه والمتنفذين بعدم التوسط للمسيئين للقانون والنظام ، لان الوطن لم يعد يحتمل هذا النزيف الدموي الذي يدفع كل يوم ضرائب باهظة من الأرواح البريئة التي لا ذنب لها, وكأننا – والله – في ساحة معركة مع الأعداء ، بل وان خوض الحروب اقل خسائر بشرية ومادية من معركة حوادث السير القاتلة . لعل كل بيت من بيوت الأسرة الأردنية شهد فاجعة من فجائع حوادث السير , فتركت جروحا لا تندمل , ودموعا لا تجف , ونارا تشتعل في الجوانح لا تنطفئ , وثكالى تئن شوقا وحنينا إلى ابن رحل , وأرملة فقدت بعلها ففقدت أمل السعادة وطموحات تهاوت من العلياء في جنح الظلام أو وضح النهار , والأشد إيلاما ذلك الطفل الصغير الذي خلّ?Zفه الأهل للمحن , لقد اكتوينا بنار حوادث السير جميعنا , فأثقلتنا بأعبائها , وأوجعت قلوبنا , وأدمت عيوننا , واصمّ?Zتْ آذاننا بدويِّها , وأزكمت أنوفنا بروائحها , وأفسدت أذواقنا بطعمها , وأصابت عقولنا بلهيبها , وأحرقت جوانحنا بشظاياها , فيا أحبتي وإخوتي الحذر الحذر من السرعة الزائدة , وعدم الانتباه , واعلموا أن الأرواح التي تُزهق بسببكم , ستُسألون عنها, وستتحملون مسؤوليتها , وستظل ضمائركم تؤنبكم وأنفسكم قلقة غير آمنة أو مطمئنة , والله نسأل أن ننتصر على آفة حوادث السير ونهزمها , لتستمر مسيرة البناء والعطاء, وتبقى منارات الفرح والسرور ترفرف فوق رؤوسنا , انه نعم المولى ونعم النصير .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد