في بطن الحوت

mainThumb

02-05-2010 07:54 PM


كثيرا ما يتداول الناس من الطبقة الكادحة في مجالسهم أحوال علية القوم من أصحاب الثروات الطائلة كتنفيسة يتناسون بها همومهم، ثم تجد أحدهم وقد وصف على سبيل التندر والفكاهة أحد اولئك الأثريا بالحوت أو بأنه أحد حيتان البلد كدلالة على ملاءته المالية وسطوته الاقتصاديه، وذلك بنبرة تنم عن حالة من الحسد حينا أو من الرهبة والتحسب أحيانا، كيف لا وقد رافقت تلك الصورة التعبيرية صور ذهنية لحيتان ضخمة ذوات أفواه واسعة تكشف عن أسنان شائكة وتفتح على بطون جائعة لا تشبع نهمها اللقيمات القليلة .




وقد نظن لأول وهلة أن اولئك الحيتان يسبحون في بحار تخص عالمهم النرجسي دون أن تمتد أذرعهم الاخطبوطية الى مستنقعات الفقراء بما تحتوية من فتات لا تكاد تقيم أصلابهم، ربما كان ذلك صحيحا في زمان اكتفى بها اولئك الحيتان باتخاذ شخصياتهم الفردية التي لا تكاد تخلو من نزعة انسانية، أما وقد أتى زمان العولمة فقد تحول بهم الحال الى شخصيات اعتبارية منزوعة الرحمة، انها الشركات التي تقدس المادة وتقتل أدنى القيم الانسانية، وياليت الحال توقف على الحيتان البلدية فقط، اذا لما خلا الحال من حنو وشفقة في قالب من الاخوة والمواطنة، ولكنها الشركات العابرة للقارات حطت رحالها في أوطاننا، وتنافست شر منافسة في مد اليد خلسة الى جيوب الفقراء والكادحين، لقد أصبحنا نرى حيتانا وردية تعبر المحيطات، وعلى الرغم من ضخامتها فما أسرع ما ننجذب الى أسنانها الذهبية ولهاتها اللعوب حتى نجد لنا مقرا على فرش وثيرة في ظلمة بطونها الواسعة.




لست هنا أنتقد رأس المال الذي بات يشكل قوة ضاربة شئنا أم أبينا، ولست انتقص من منافع العولمة وحرية التجارة والتبادل على جميع الصعد، فهذا واقع علينا أن نجني منه الحصاد لا أن نقف من موقف جمود ورضوخ وقبول على ما فيه من علات، انني انتقد سلوكنا كأفراد في التعامل مع مغريات السلع والخدمات التي تدب علينا من كل صوب، فنلتقطها التقاط اللهفان الذي ينتظر الغوث، وكأنها فرصة ضائعة ستفقد بعد لحظة، فبتنا أسرى للسلع التي لا نحتاجها، وعبيدا للخدمات التي نحن في اتم الغنى عنها وكل ذلك على حساب ضروريات نحن في أتم الحاجة اليها، وكل ذلك في صورة رسمناها بأيدينا تتجلى في ثقافة الاستهلاك المسعور سعيا وراء الرفاهية الكاذبة والرياء الخادع والمجاراة الضائعة.




لا شك أن مقاييس الرفاهية أو الضرورة ذات أبعاد مرنة جدا تبعا للحالة الفردية لكل انسان، فلا يمكن لأحد أن يقرر ذلك لغيره، ولا شك أن كثيرا من السلع والخدمات المقدمة باتت من الضروريات التي تيسر العيش وتجمل الحياة، ولكن المقصود في حديثنا أن يكون الانسان حكيم نفسه فلا ينجر وراء الدعايات الخادعة أو العروض الزائفة أو الرسائل الجاذبة فيفتح جيبه لكل يد ممتده فيصحو على نفسه فلا يجد سوى يده والحصير.




انك ترى في مروج السلعة أو الخدمة ببدلته المهذبة ونظارته البراقة وكلامه المنمق اهتماما بك قلما انتظرته من أبيك، حتى ربما قد يصيب نفسك الغرور، وما علمت أنه يراك رزمة من الاوراق النقدية التي يسيل لها لعابه، وما أن تشتري منه حاجة أساسية حتى يورطك في عدة خدمات اضافية حتى اذا جاء وقت الدفع تفاجأت بالعديد من البنود على الفاتورة لم تكن تعلمها، فاذا اعترضت فليس لك من مجيب لأن قبيلك حائط أصم يخلو من اللحم والدم، ولك الويل اذا ما انسحبت من غرامات ورسوم مستمرة حتى بعد الاستغناء عن الخدمة، فترضخ وتدفع صاغرا لتخرج نفسك من هكذا ورطة .




انها دعوة للتعقل والاقتصاد في وقت تتفلت فيه الدراهم وتهرب فيه الدنانير، واذا ما أفلست فلن تجد لك من نصير، فالاقتصاد نصف المعيشة، وفي حسن التدبير تتجلى الحكمة، وكما ورد عن الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في حديثه الشريف :( وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ( ، وكل ما فوق ذلك فهو دين عليك تبعاته ولغيرك منافعه، فهل ستدفع بنفسك لقمة سائغة في بطن الحوت بعد اليوم؟


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد