دي دي واه والخروج من التاريخ

mainThumb

29-06-2010 06:57 AM

 قرأت ما كتبته السيدة أحلام مستغانمي عن الوطن المختصر بأغنية هابطة وتراءت أمامي صورة الوطن العربي من الماء إلى الماء وهو يردد تلك الأغنية ويرقص على أنغامها الأكثر هبوطاً رقصته الأخيرة، رقصة الخروج من التاريخ.



عرفت السيدة أحلام في معرض الجزائر الدولي حين كانت مذيعة المحطة الداخلية للمعرض، وكانت تلك الفترة أواسط السبعينيات حافلة بالعز والبطولات، فقد خرجنا من حرب أكتوبر المجيدة مرفوعي الرأس على الأقل ونحن نعوض جزءاً من هزيمة حزيران. كانت الاشتراكية في الجزائر قد بدأت ترسخ أقدامها في أرض المليون ونصف المليون شهيد، وانطلقت الثورات الثلاث وإن كانت الثورة الزراعية هي التي فتنت الشبيبة فاندفعوا برحلات أسبوعية لمساعدة الفلاحين الفقراء الذين امتلكوا أخيراً قطعة أرض بعد انتهاء عقود من الإقطاع ونظام (الخماسة) . أيضاً كانت الطفرة النفطية قد بلغت أوجها مما وفر للجزائر ولغيرها من البلدان المنتجة مدخولات خيالية، فاندفع بومدين للإعمار والتصنيع من السد الأخضر إلى طريق الوحدة الإفريقية إلى مشروع الألف قرية اشتراكية والمجمع البترولي في ازريو وبناء عشرات المصانع العملاقة والمطارات والجامعات وتكوين جيش حديث ومؤسسات لا تزول بزوال الرجال كما كان يردد دائماً،



 بالمختصر أصبحت الجزائر دولة يحسب لها حساب لما شكلته من ثقل سياسي ومعنوي ومادي فهي كعبة الثوار وقاهرة حلف شمال الأطلسي الذي دعم فرنسا أثناء ثورة نوفمبر الخالدة، وإحدى أقطاب دول دعم حركات التحرر الإفريقية والآسيوية وفي أمريكا اللاتينية، وترأست حوار شمال – جنوب وعضو فاعل ومؤسس في المنظمة الأفرو- آسيوية.



كانت كاريزمية الرئيس الراحل هواري بومدين غير عادية فحين يقف وراء الميكروفون مخاطباً الجماهير بلغة عربية بسيطة ممزوجة بلهجة محلية يلهب حماسها إلى درجة الهيجان والاستعداد لمناطحة القوى العظمى إن لزم الأمر.



كنت أعمل في جناح فلسطين الذي قدمته لنا جمهورية فيتنام الشمالية بعد انتصارها على أعتى استعمار في العالم، ونحن في مرحلة التحضير قبل الافتتاح الرسمي دخلت تلك الصبية النحيلة ذات الصوت المبحوح بدون تصنع لتحية فلسطين والإعراب عن محبتها وتعاطفها معنا وبعد دقائق قليلة تكونت صداقة ستستمر حتى مغادرتها الجزائر بعد أن تزوجت من الصحفي اللبناني جورج راسي.



كانت السيدة أحلام تقدم برنامجاً يومياً بصوتها المميز ذي البحة المستحبة "همسات" تهمس فيه بالشعر المنتقى من نزار قباني ومما قرضته هي والذي أحدث هزة في المجتمع الأدبي الجزائري كديوانها " على مرفأ الأيام" و " الكتابة في لحظة عري" .



في مقهى "طالب عبد الرحمن" مقهى الطالب، وفي مقهى "اللوتس" وعلى سور الجامعة المطل على النفق تحادثنا كثيراً وكانت مواجعنا متشابهة. والآن ونحن على بعد وهي بين بيروت وباريس تحت احتلال واضطهاد "دي دي واه" وأخواتها وحيرتها وعجزها عن تفسير تلك الكلمات، وأنا في رام الله تحت سنابك الاحتلال مسحوقاً معفراً بذل الحواجز وغبار الانتظار في الصفوف الطويلة تعود بي الذاكرة إلى ثلاثين سنة خلت.  وبالمناسبة فقد كانت موسيقى (الراي) وكلماتها الساقطة محظورة في فترة حكم بومدين لأنها كانت شائعة في الأماكن السيئة السمعة أثناء فترة الاستعمار وتأتي الكلمة من الشباب الطائش الذين (لا رأي) لهم وهي لا تعدو أكثر من "صف حكي" لعدة كلمات لا تحمل أي مضمون أو معنى ولا تخضع لأي قاعدة لغوية أو موسيقية، وكفى (الفن) المغني ليصبح بين ليلة وضحاها أكثر أهمية وشعبية وغنى من أحلام مستغانمي بل ومن جرير وأبي تمام والبحتري. ثلاثون عاماً والشعوب في هذا العالم المسمى ظلماً (عربياً) لا تملك إلا السجون والمنافي والقهر وأجهزة العسس التي لا هم لها إلا مراقبة (المشاغبين) أمثال أحلام الذين يسبحون ضد التيار ويرفعون أقلامهم في وجه الطغيان والسقوط، والتنصت على مخادع الزوجية والنوايا والأحلام .


رغم كل ما قيل سابقاً، فقد ذهبت "دي دي واه" ولم يأسف عليها إلا من ينتمون إلى حظيرتها لكن ثلاثية ذاكرة الجسد باقية في وجدان وقلوب العرب الحقيقيين، تماماً كشجر الزيتون الذي يضرب جذوره بالأرض حتى الصخرية منها، قد تنحني غصونها أمام الرياح والعواصف لكنها لا تلبث أن تقف بشموخ وخضرة دائمة على مر الفصول تتحدى البيوت المتنقلة على العجلات والأبنية التي تشبه علب السردين المسقوفة بالقرميد الأحمر والتي لا تنتمي لا للمكان ولا للزمان لأن أمامها مباشرة بيوتنا العتيقة المهدمة ذات العقود المقوسة والتي برزت الحشائش البرية من بين شقوقها لتعلن الحياة من جديد. الحياة المستمرة لفلسطين ولبيوت فلسطين منذ عهد كنعان. " وأما الزبد فيذهب جفاءً".



إلى سيدة قسنطينة، مدينة الشيخ عبد الحميد بن باديس، صاحبة الثوب المطرز بالقصائد المتأصلة في الجسور منذ عهد خير الدين برباروس، إليك أيتها العربية حتى النخاع أقول: لا بأس تلك هي الدنيا وهذا هو الحال. كبرنا لكن أحلامنا لم تكبر معنا بل تم اختزالها ولم يتماه الحلم مع السنين. الجرح في الصدر مفتوح على ثقافة الانترنيت والفيس بوك وسوبر ستار، ولا مكان لنزار قباني ولا لمحمود درويش ولا للمتنبي إلا في قلوب من يقبضون على الجمر بأيديهم العارية. تشوهت اللوحة واختلطت الألوان واضطربت الأمور و.......



سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى        لعاب الأفاعي في سبيل فرات

فجاءت كثوب ضـم سبعين رقعة         مشـكلة الألـوان مختلفات

أيطربكم مـن جانب الغرب ناعب         ينادي بوأدي في ربيع حياتي



هل يقف السقوط عند " دي دي واه" أو عند أمثاله وهل نحن  بخير باستثناء الفن؟ السقوط سيدتي يبدأ من السقوط السياسي وفقدان الأوطان لكرامتها، وعندها يسقط كل شيء. هل رأيت بلداً يعيش بكرامته الوطنية وحدوده غير مستباحة ويشهد انهياراً ثقافياً أو فنياً أو حتى اقتصادياً ؟ .


هل سمعت أو رأيت جرذاً مصاباً بالسرطان يقضي بطلق ناري ؟ .


كما حدث مع المناضلة جميلة بوحيرد التي رافقتك بالطائرة حاملة زاد ابنها لتوفر عليه وعليها بعض المصاريف، وكما تعاني الآن من العلاج بسبب ضائقتها المادية، وكما أصابك من حزن وأسى وترحم على الشهداء، نترحم نحن هنا ألف مرة في اليوم ويقضي معظمنا بالسكتة القلبية أو الدماغية ونحن نرى الكثيرين ممن لم تتغبر أحذيتهم مرة واحدة بتراب الخنادق أو الأزقة محاطين بالسيارات والأزلام يرافقونهم في حلهم وترحالهم بينما يعاني الكثيرون ممن تعرفين أنت شخصياً بعضهم شظف العيش وقسوة الحياة. لذا، ليس غريباً أن يقفز صاحب "دي دي" إلى النجومية ومن هم على شاكلته لأن امتدادات "دي دي" تصل إلى مجال الثقافة والاجتماع والسياسة ليصبح لكل واحد منهم خمسة حراس وطائرة خاصة، بينما تنحت أحلام وأصدقاء أحلام وصديقات أحلام بالصخر لاستخلاص الحرف النظيف والكلمة الشريفة والجملة الصادقة وقد يصلون أو لا يصلون إلى عشر تلك النجومية الجوفاء. ورحم الله الذين قضوا قهراً بصمت فالميتون لا يتكلمون، فهل يعود الشهداء هذا الأسبوع؟؟ 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد