عن الجيل زد … وهندسة الإدمان البصري
هيمنت هوليوود بشاشات السينما العريضة، كما التلفزيونات، على السرد القصصي لعقود طوال، مرتكزة إلى قناعة ثابتة بأن المشاهد يمتلك من الصبر ما يكفي لانتظار تطور الأحداث في الحكايا عبر ساعات طويلة ومواسم ممتدة.
لكن، وفي غفلة من عمالقة الإنتاج التقليدي وقناعاتهم، كانت ثمة ثورة هادئة تختمر في الشرق، تحديداً في الصين، تبدو على وشك أن تقلب موازين سوق المواد البصرية رأساً على عقب.
إن الحديث هنا لا يتعلّق بمقاطع «تيك توك» أو «إنستغرام» العشوائية للرقص أو الطهي، بل عن شكل سردي جديد بات يعرف بالـ»مايكرو – دراما»، وهي مسلسلات صينية فائقة القصر، مصممة للشاشات العمودية، ومبنية وفق منطق اقتصادي – نفسي دقيق، يجعل من المشاهدة فعلًا اندفاعياً لا قراراً واعياً، مهددة بذلك فكرة الدراما الطويلة، كما عهدناها.
مسلسلات 120 ثانية
تستهدف هذه المسلسلات تقديم مادة للاستهلاك عبر الهاتف المحمول خلال أوقات النهار بينما يتنقل المرء في حافلة أو قطار، أو أثناء الانتظار في طابور أو عيادة طبيّة، أو حتى خلال الاستراحات القصيرة في العمل. فبدلاً من مشاهدة حلقة تلفزيونية كاملة تتطلب تركيزاً لما معدله 45 دقيقة، تقدم هذه المنصات وجبة درامية دسمة مدتها دقيقتان. الفارق الأساس هنا يكمن في التكثيف. إذ قد ننتظر ثلاث حلقات أو أكثر في الدراما التلفزيونية التقليدية لاكتشاف سر شخصية البطل، بينما في عالم (الدوانجو) – الاسم الصيني لهذه المسلسلات – تبدأ الحكاية وتنتهي في غضون عشر دقائق مقسمة على 5 حلقات قصيرة وسريعة.
هذا النمط الجديد ليس عشوائياً، بل هو نتاج دراسة دقيقة لسيكولوجية المشاهد الحديث الذي تآكلت قدرته على التركيز منذ إطلاق الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي، والرهان فيها قائم على مبدأ الإشباع الفوري، حيث لا مجال للمقدمات الطويلة أو بناء الشخصيات المعقد؛ الحبكة هي الأساس، والسرعة هي القانون، فيما تنتهي كل حلقة إلى حالة معلقة تدفعه بدافع الفضول المحض إلى دفع بضعة سنتات أو مشاهدة إعلان للانتقال للحلقة التالية، ليجد المرء نفسه وقد التهم لتوه عشرات من تلك الحلقات دون توقف. هذه ليست فوضى سردية، بل هندسة إدمان مدروسة، تُطبق فيها مبادئ علم النفس السلوكي واقتصاد الانتباه بحرفية عالية.
«الجيل زد» وموت الصبر الدرامي: متهم أم ضحية؟
قراءة صعود الـ»مايكرو- دراما» غير ممكن بمعزل عن جمهورها الأساس والمحرك الأساسي لها: الجيل «زد». فهذا جيل لم يعرف العالم بدون هواتف ذكية، ويرى في الانتظار مللاً قاتلاً، ويعيش سحابة نهاره داخل الفضاء السيبيري في مزاج من التقليب اللانهائي للمواد البصرية على منصات التواصل الاجتماعي. بالنسبة لهؤلاء، الدراما التلفزيونية التقليدية التي تتطلب بناءً بطيئاً للأحداث تبدو وكأنها تقنية قديمة من العصر الحجري لا تلائم إيقاع حياتهم.
لقد كيّف المنتجون مادتهم بذكاء لتكون كما مرآة عاكسة لعقلية الجيل الجديد، فهي تحاكي إيقاع منصات الفيديو القصيرة المتسارع، وتتحدث لغة بصرية عمودية تملأ شاشة الهاتف بالكامل، مما يخلق تجربة انغماسية تلغي المسافة بين المشاهد والحدث، الذي لم يعد مضطراً لتكييف وقته مع المسلسل ومواعيد البث، بل أصبح المسلسل يتكيف مع فجوات وقته الضيقة والمتقطعة. إنها دراما «حسب الطلب» بالمعنى الحرفي، تدرك أن هذا الجيل لا يبحث عن الفن الخالد، بقدر ما يحتاج إلى جرعات «الدوبامين» السريعة التي تنسيه ضغوط الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعقد الذي ورثه.
على أن تحميل الجيل «زد» التهمة في موت الصبر الدرامي وتراجع القيم الجمالية تسطيح للظاهرة. فهذا الجيل لم يختر الإيقاع، بل وُلد داخله، عبر خوارزميات تُضخّم الاستجابة العصبية، ونموذج اقتصادي يرى في الانتباه موردًا قابلًا للاستثمار بلا قيود. ولذلك فإن «المايكرو- دراما» لا تُخاطب عقلية جيل، بل تُشكّلها، ولا تعكس الذائقة بقدر ما تعيد برمجتها.
قد يظن البعض أن هذا النوع من الفن الذي يكرس أمراض العصر مجرد ظاهرة هامشية ستزول، لكن لغة الأرقام تخبرنا بقصة مرعبة. في الصين وحدها، تجاوزت إيرادات سوق الدراما الميكروية 50 مليار يوان (حوالي 7 مليارات دولار) في عام 2024، متفوقة بذلك لأول مرة في التاريخ على إيرادات شباك التذاكر السينمائي المحلي في الدولة التي يسكنها ربع سكان الأرض.
هذا التحول الجذري يعني شيئاً واحداً: الجيل الجديد يصوت بأصابعه عبر شاشات الهواتف، مفضلاً الدراما العمودية السريعة على طقوس الذهاب للسينما أو التسمر أمام شاشة التلفزيون الثابتة في المنزل.
كليشيهات «الابتذال» اللذيذ
المحتوى في هذه المسلسلات غارق في الابتذال والتكرار، والنصوص تعتمد على ثيمات ثابتة ومكررة تُعرف بـ «الاستعارات»: الفتاة الفقيرة التي تتزوج الملياردير سراً، الزوجة المظلومة التي تعود من الغيبة لتنتقم، أو القائد العسكري الذي يتنكر في زي بواب.
المشاهدون يدركون بالطبع رداءة التمثيل وغرابة الحبكات لكنهم يجدون فيها نوعاً من إراحة للدماغ بعد يوم عمل شاق. إنها دراما تقدم مشاعر خام حادة، ولا وقت فيها إلا للانفعالات المتفجرة.
من الشرق إلى الغرب: غزو ثقافي عكسي
اللافت للنظر أن هذه الظاهرة تجاوزت سريعاً سور الصين العظيم لتقتحم معاقل الترفيه الغربي، حيث ظهرت عدة تطبيقات باتت تتصدر قوائم التحميل في الولايات المتحدة، مستحوذة على اهتمام الجمهور الأمريكي.
ولم تكتف الشركات الصينية بدبلجة مسلسلاتها، بل وبدأت في إنتاج محتوى أصلي بممثلين أجانب في قلب هوليوود، مستخدمة النصوص والقوالب الصينية الميلودرامية نفسها: ممثلون شقر بعيون زرقاء يؤدون مشاهد مليئة بالمبالغات العاطفية التي صيغت أصلاً وفق الذائقة الآسيوية. ومع ذلك، تنجح هذه الخلطات، إذ تشير البيانات إلى أن التطبيقات الصينية للدراما القصيرة حققت إيرادات ضخمة في السوق الأمريكية، حيث يبدو أن شهية المشاهد الغربي «للقصص السريعة والمبتذلة» لا تختلف كثيراً عن نظيره الصيني. إنها عولمة من نوع جديد، غزو ثقافي معكوس، تُصدر الصين فيها إلى الغرب الشكل والإيقاع لا المحتوى الثقافي فحسب.
العالم العربي يبدو أرضاً خصبة مهيأة تماماً لهذا النمط من الإنتاج. المنطقة التي تستهلك الدراما التركية والهندية المدبلجة بنهم، تمتلك ذائقة فنية تتماهى بشدة مع «ثيمات» الدراما الصينية القصيرة، حيث قصص الحب المستحيلة، الصراع الطبقي بين الفقر والثراء الفاحش، الثأر العائلي، وسطوة «الحماة» المتسلطة.
وتمتلك منطقتنا نسباً هي الأعلى عالمياً في استخدام الهواتف الذكية ومنصات «تيك توك» و»أنستغرام»، خاصة في دول الخليج ومصر، ومع ذلك لا تزال صناعة الدراما العربية أسيرة الشاشات العريضة ومواسم رمضان التقليدية. إلا أنها بالتأكيد مسألة وقت قبل أن تكتشف شركات الإنتاج منجم ذهب جديد في جيوب المراهقين وطلبة الجامعات من مستهلكي البصريات العمودية.
إن الـ»مايكرو دراما» كمنتج بصري استجابة حتمية لعصر السرعة وتشتت الانتباه وفقدان القدرة على التركيز الطويل. لكنها بالنسبة لصناع الدراما التلفزيونية والفضائيات، خطر وفرصة: الجودة العالية والكاميرات الباهظة لم تعد كافية وحدها لجذب الجيل الجديد، فالمنافسة اليوم لم تعد مع القنوات التلفزيونية الأخرى بقدر ما هي مع هاتف ذكي في جيب المشاهد يقدم له جرعة دوبامين مركزة كل دقيقة.
لا شك أن هذه المقاطع العمودية لن تحل محل السينما العظيمة أو المسلسلات الملحمية التي تبني الثقافة والذاكرة، لكنها حتماً حجزت لنفسها مقعداً قد يكون دائماً في لعبة الترفيه العالمي. وكما تكيفت الصحافة بشكل أو آخر مع «تويتر» وأخواتها، سيتعين على التلفزيونات أن تجد طريقة للتعايش مع هذا «التنين» الصيني الصغير الذي يلتهم الشاشات، قضمة في كل دقيقتين.
إعلامية وكاتبة لبنانية
المرأة العربية بين الوعي الثقافي والهوية الجمالية
إجراءات قانونية بحق ملكة جمال مصر
العبداللات ومنير في حفل ختام كأس العرب
تركيا توقف عددا من الفنانين والمشاهير
عن الجيل زد … وهندسة الإدمان البصري
عن الجيل زد … وهندسة الإدمان البصري
تأملات في العيش داخل حلقة التكرار
الأوضاع الإنسانية في غزة – شاهد عيان
ترامب وفنزويلا: القرصنة أحدث مراحل الإمبريالية
وفاة مشهور التواصل السعودي أبو مرداع بحادث مروع
ارتفاع جنوني في أسعار الذهب محلياً اليوم
وزارة الأوقاف تُسمي ناطقها الإعلامي الجديد
اعلان توظيف صادر عن المحكمة الدستورية
الحكومة تعلن عن وظيفة قيادية شاغرة
اليرموك تُدرج متحفي التراث والتاريخ الطبيعي على منصة تريب آدفيزور
كتلة هوائية شديدة البرودة تضرب المملكة بدءاً من الاثنين
ماسك ينشر قائمة الدول الأكثر توقيفا لمعلقين على الإنترنت
مدعوون للتعيين وفاقدون لوظائفهم في الحكومة .. أسماء
إحالة مدير عام التَّدريب المهني الغرايبة للتقاعد
الضمان: تعديلات تشريعية مرتقبة للمنتسبين الجدد وتعديل سن التقاعد مطلع 2026
عندما تصبح الشهادة المزورة بوابة للجامعة
مهم بشأن الرسوم المدرسية للطلبة غير الأردنيين
صرف 5 ملايين دينار معونة شتوية لأكثر من 248 ألف أسرة
المملكة على موعد مع منخفض جوي جديد .. أمطار وزخات ثلجية وصقيع واسع ليلاً



