الملكيَّة الدستوريَّة من الوجهة الأدبيَّة

الملكيَّة الدستوريَّة من الوجهة الأدبيَّة

19-03-2011 11:47 PM

لقد أثبت النظام الملكي على مرِّ الزمان والمكان أنه أصلح الأنظمة بعد الخلافة الراشدة ؛ لوقوفه دوما مع السواد الأعظم من الناس ، وأنَّه أقل الأنظمة إراقة للدماء وتضيقاً على الحريات، ونهباً للخيرات ، وتكميماً للأفواه ، واغتيالاً للعقول ؛ وذلك لمحافظته على حبل المودة بين الحاكم والمحكوم ؛ لأنه يرى وجوب دوامه وبقائه متوقف على الخط الواصل بينه وبين الرعية واحترام هذه العلاقة، التي مثلها الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان ـ آخر الخلفاء وأول الملوك ـ بشعرة بقولة " والله لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت "،



ويحرس النظام الملكي على أن لا يشين هذه العلاقة شائن ؛ لعلمه أنه لا يمكن له الاستمرار مع الحقد والكراهية ؛ فلذلك لا يستعجل النظام الملكي المكاسب الآنية ولا يستغل الصلاحيات المؤاتية المتاحة لتطويل عمره بالتعسف والإكراه ، فبقاء أمره يكفله الدستور والمحبة ، ولا تكفله سلطة المال المنهوب على حساب تجويع الشعب ، ولا تكفله السيطرة على المقدرات ، وصياغة دساتير وأنظمة وتعليمات لحمايته وحياطته و صيانته بالحراسة من خلال استحداث كتائب غاشمة وقوى ضاربة مستعدية الشعب ، ومُعدَّة لقمعه إن تأوَّه بكلمة ، لا بل على العكس ، فرأس مال النظام الملكي العدل والمحبة وشيوع التفاهم والود والمحبة بينه وبين الناس ، وبين الناس بعضهم بعضا لأن سلامة المُلك وقوته وديمومته تكمن في سلامة بنية النسيج الداخلي وتحفيز الطاقات ورعاية الفكر والإبداع ، ودفع الناس بعضهم بعضا بعد ذلك للعمل الجاد المخلص للمحافظة على المكتسبات وزيادة الإنتاج .




أخواني في المعارضة السلميَّة المتحضرة : أنا أستاذ للأدب القديم ، وقد بلغت من العمر عتيا ، وسئمت تكاليف الحياة كما قال زهير بن أبي سُلمى في معلقته : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ـ ـ ـ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم وقد اطلعت على تاريخ الأمم والشعوب العربية وغيرها ، فلم أجد خيرا من أن يكون الملك صمام الأمان للشعب والدولة ،وجلالة الملك أصدقنا حديثاً وأكثرنا حباً لهذا الوطن وأهله وأعلانا همة وأسددنا رأياً ،فكلما شعر الشعب بظلم وتجبر من أحد المسئولين يلوذون بالملك لوذ الحمائم بأهلها ، فينبري الملك لتصحيح الخلل بإقالة المسئول ومحاكمته، إن كان يحتاج الأمر إلى ذلك ؛ لأنه يملك الصلاحيات . أما في النظام المقترح فلا يملك جلالة الملك الصلاحيات التي تقيل رئيس الوزراء وغيره من المسؤولين الكبار إذا ما احتيج الأمر إلى ذلك بسرعة ؛ لأن معظم صلاحيات الملك بيد رئيس الوزراء وحاشيته ورجاله ، وسيحيط الأخير نفسه بحزب يساعده على التشبث بزمام كل الأمور وسيوجد قوى كثيرة تحافظ على بقائه ، كما نرى ونعلم ونشاهد ، وعندئذٍ لمن نشتكي إن تمادي رئيس الوزراء أو غيره من المسؤولين !! ، ومن الذي يستطيع تغيير الأمور بسهولة وسرعة دون إراقة دماء أو تدمير للمكتسبات ،
 



إن أفقدنا الملك هذه الصلاحيات !! حيث سوف تتداخل الأمور ويصبح شكل الدولة وكأنه نظام جمهوري داخل نظام ملكي ، ولن يحمد لهذا الأمر عقبى، ولن يصلي الناس خلف إمام واحد بعد ذلك . أيها الأخوة الأعزاء في المعارضة الأبية : إنكم تعلمون تمام العلم طبيعة العقلية والنفسية العربية ، وأننا نختلف عن بقية الأمم كما تشاهدون الآن في بعض البلاد العربية كيف يتشبث بعض الرؤساء بكراسي الحكم حتى لو قتل كل الشعب ، وهذا ناتج عن الكبرياء والخيلاء التي تعيشها النفس العربية ! فنحن العرب نملك من الأنانية وحب الذات والتفاخر بالقبلية والزعامة ما ينغص علينا حياتنا ويضيق علينا سبل عيشنا ، ولا فكاك من ذلك ولا مناص من التخلص من هذه القيم الاجتماعية النفسية المتغلغة في طباع العربي منذ أول ظهور لنا على صفحة الحضارة الإنسانية وبدأ بكليب صاحب أول تاج لملك على عرب الشمال وقد أورث قومه حرب البسوس التي استمرت أربعين عاما قبل الإسلام وإلى بعض زعماء اليوم وغدا وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، وقد أشار إلى ذلك الرسول محمد (ص) بقوله : " أربعة في أمتي لا يتركونهن : التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب ، والاستمطار بالأنواء والنياحة ".




فليس بمقدورنا أن نصنع دستورية ملكية على غرار المملكة المتحدة البريطانية أو الهولندية أو الماليزية أو غيرها ، وتبصروا يا أولي الألباب ، كيف قلبنا الأنظمة الجمهورية إلى ملكية عضوضة ؛ لأننا ما زلنا نعاني من العقلية الجاهلية وستبقى فينا إلى يوم القيامة ، وستبقى فينا مواريث الشيخة القبلية ، وقد انتقلت في العصر الحديث إلى الدول ، وأصبح رئيس الجمهورية عند العرب وكأنه شيخ قبلي مبجل لا تنعقد الرايات إلاَّ برأسه ولا يصلح الزمان إلاَّ بوجوده ، له الحول والطول و مرباع المال والنشيطة عند الغزو والحل والترحال ، فيجب أن يبقيه الشعب رئيساً إلى الأبد . إنني أبذل لكم نصحي ولن أتخاذل عنكم ، ولن أميل إلى قوم سواكم ، كما مال الشنفرى ، ذلك الصعلوك الجاهلي المصلح بقوله : أقيموا بني أمي صدور مطيكم ـ ـ ـ
 



فإني إلى قومٍ سواكم لأمـــيلُ إنني ألفت انتباهكم أنَّه من أسباب التخفيف على الأردنيين ضغوطات الحكم فيما سبق هو وجود الملك على رأس السلطات ، فكان كلما حاد مسؤول عن جادة الطريق سارع إلى إيقافه وتنحيته وصحح المسار ، فاستمرت المسيرة بأقل الخسائر ، وتعلمون أن عمر الحكومات قصير في الأردن وهو يصب في مصلحة الشعب بحيث لا يتجبر رئيسٌ للوزراء على الناس ثم يشعر أنَّه مُخلد وبعيد عن المساءلة , فبقاء المسؤولين الحكوميين لمدة طويلة في الحكم يشعرهم بأهميتهم الزائفة وصلاحهم المزعوم في أنفسهم ، وأنـَّهم أصلح الناس لجلائل الأمور ، وأنَّ دفة الحكم لا تصلح إلا بهم ، فتتكون حول الواحد منهم تلقائيا قوى فكرية وسياسية وثقافية وعقائدية وأمنية وعسكرية لابد أنها ستحرفه عن سلامة المنهج بعد حين، وتضطره إلى الانقياد لها والاستسلام لمشاريعها ومخططاتها دون أن يشعر أنه قد انحرف ؛ لأنهم سيزينون له كلَّ خطوة رسموها له ، وكل مسار وضعوه فيه ، وسيبذلون كل ما في وسعهم للمحافظة على مكتسباتهم عن طريق إيهامه أنـَّهم يحافظون عليه دون أن يكون له في قلوبهم أدنى مودة ، وفضلا عن ذلك يتربصون به الدوائر ,وإذا ما سقط تخلـَّوا سريعا عنه وتبرؤا من تصرفاته السابقة التي كانت من صنع أيديهم ، وبعد التمرس بدهاليز السياسة والمكر وطول المدة لا تصبح قدراتهم الذاتية والمحليَّة مقنعة لهم بعد ذلك لأنهم يعيشون في خوف من صحوة الشعب ، فيبدأون بتزيين الاعتماد له على قوى خارجية ، فيغرقونه في بحر العمالة والارتباط على حساب الشعب بقوى لا يهمها سوى مصالحها فقط ، ظناً منه أنَّها ستحميه وتطيل عمره وتقف معه ضد شعبه . كما يحصل الآن ؛ وأنتم تشاهدون وتسمعون .
 



أيها الأخوة المطالبين بالملكية الدستورية : إنكم تعلمون أن الملك لا يعتمد في حكمه على حزب سياسي ، وأن رصيده وقوته محبتكم ونقاء سرائركم ، وتمسككم بأهداب دينكم والتفافكم حوله ، وتعلمون أنَّه لم يتم استغلال من قبل أفراد الأسرة الهاشمية الحاكمة أو بعضهم لمكانتها في سدَّة الحكم للسعي لثراء فاحش كما ترون حولنا أو ممارسة أساليب التسلط والهيمنة ؛ لا على الاقتصاد ولا على فرض الرؤية الخاصة بها على السياسية وغيرها من مجالات الحياة الأردنية ، ولم يتم تعيين أحد أفرادها بمنصب كبير كرئاسة الوزراء أو حتى وزير أو قيادي كبير للأجهزة العسكرية أو الأمنية الأخرى كما يحدث في الدول العربية الأخرى ليست الملكية فقط وإنما الجمهورية أيضا . إن المطالبة بتقليص صلاحيات الملك لصالح رئيس الوزراء لن يصب في مصلحة الشعب ، وأرجو الله أن لا يحدث ذلك خشية من تبعات ذلك غير المحسوبة أبدا ، فنندم يوم لا ينفع الندم ، ونردد ما قاله الشاعر : عتبتُ على سَلَمٍ فلما فقدته ـ ـ ـ وجربتُ أقواماً بكيتُ على سَلَمِ وإنكم تعلمون حق العلم أن خير العرب بني هاشم وخير بني هاشم محمد (ص) وآل بيته ، وقد طهرهم الله في كتابه العزيز ، بقوله تعالى :" إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ، وكان هولاء النفر البيض المطهرين وعلى مرِّ تاريخهم مشاريع شهادة ، فكلما تنكبت الأمة سبل الرشاد ثاروا بدمائهم الزكية لتنبيه الحكام وحملهم على العودة إلى الطريق القويم ؛ لأنهم أهل الرسالة " ويعلم الله حيث يجعل رسالته " .
 



وإن المسلمين يتوقون لحكمهم في كل زمان ومكان لصلاحهم وعدلهم وقرب نسبهم من نبيهم محمد (ص) أبو القاسم المصطفى العربي الهاشمي الذي ما أظلت السماء ولا أقلت الغبراء خيرا منه ، فكيف وقد وهبنا الله هذه العطية دون بذل جهد كبير ولا إراقة دماء . فهل نفرط بعطاء الله لنا بسهولة انسياقاً وراء هواجس وأحلام لا تغني على أرض الواقع شيئاً ، وهاهي أحلام الشعوب بأنظمتهم على المحك وينكشف زيفها أمام أعينهم كل يوم وليلة . وفي مطلع القرن الماضي كلنا قرأنا تاريخ أحداثه وعشنا جزءاً من تبعاتها ، وأن الجد الشيخ الحسين بن على ملك مكة والحجاز قد ضحى بحياته من أجل فلسطين عندما رفض المشروع البريطاني بالسماح لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين ، وخسر ملكه ونفي وشرد وخذل ومات غريبا ، ولكنه دفن في الأرض التي ضحى من أجلها في ثرى الأقصى الشريف ، ومن منا ينسى صيحة فيصل بن الحسين في دمشق " لقد طاب الموت يا عرب " ضد المستعمر الفرنسي لسوريا الشقيقة ، ولا ننسى الأب المغفور له الحسين بن طلال عندما رفض إرسال جيش لمحاربة العراق في حرب التسعينات على الرغم من انصياع كل العرب والعالم للهيمنة الأمريكية .
 



أيها الأخوة الوطنيون في المعارضة : نحن لا نشك في صادق ولائكم لوطنكم ولآل بيت نبيكم ، وندرك أن مطلبكم هذا هو اجتهاد ومحاولة لتخليص بلدكم من الفساد والمفسدين والمتسلقين حيطان الدار والجار والدولة صباح مساء وتطهير جهاز الدولة من المنافقين والمزايدين على مصلحة الوطن ، والوصول إلى ذلك أسهل مما تقترحونه ، وأقل خسارة مما لو حاولنا تحقيقه عبر نظام الملكية الدستورية المنشود ، والحل يكمن بيد جلالة الملك وبإزداء النصيحة له " والنصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين " وبالتفاف العلماء المخلصين وأهل الفكر والخلق والمروءة حوله ، وإخراج كل من كان سبباً في أزمة الأردن والأمة هذه من المشهد السياسي ؛ لأنهم لا يستطيعون قيادة المرحلة الجديدة ؛ لأنهم سببا في وصول الأمور إلى هذا الحد ، ولا يستطيعون تغيير ما تربوا وشبوا عليه من قيم سياسية وما يتعلق بها من عادات نفسية و قيم اجتماعية ، وعلى هولاء أن يعترفوا بذلك ويفسحوا المجال لأهل العلم والصدق والمروءة وأهل الفكر والإصلاح والتأهيل ، وهم كـُثرٌ في بلدنا ، ولكنهم مغمورن ويبتعدون دوماً عن الأضواء وعدسات الكميرات وضجيج الإعلام .
 



أيها الأردنيون الشرفاء في كل مواقعكم حكموا العقل وحافظوا على وطنكم ، وأعلموا أن حياتنا في الأردن على الرغم من كل ما يعكر صفوها أجمل من حياة كثير من الشعوب الغنية العربية وغير العربية ، وتشاهدون كيف يتخطف الناس حولنا صباح مساء ! وكيف تنتهب الأوطان وتنتهك الحرمات والكرامات وتراق الدماء ! فاعملوا على تجاوز هذه المحنة بالعقل والعلم والدين ، ولاتعاندوا رياح التغيير بدون حيلة فتفشلوا ، واستفيدوا من حركتها لتأمين حياة أبنائكم ومستقبل أوطانكم ، وأرجو الله أن لا أكرر قٌول دريد بن الصمة عندما نصح قومه ولم يقبلوا نصحه، ووقعوا بالمحذور : أمرتهموا أمري بمُنعرجِ الـَّلوى فلم يستبينوا الرُّشدَ إلاَّ ضُحى الغد وأخيراً : وما أنا إلا من غزية إنْ غوت غويتُ إنْ ترشُدْ غزيةُ أرشــد ِ وبالله التوفيق والهداية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد