الرقم الوطني إذ يكتسي لحما

mainThumb

05-04-2011 11:25 PM

للصدق؛ لم أعترض يوما على قرار سحب الأرقام الوطنية ومسألة تصويب الاوضاع بناء على قرار فك الارتباط, وما زلت مع دسترة وقوننة هذا القرار ليكون كل ما يجري بموجبه واضحا ومعلنا, فلا يستطيع اي طرف ان يحتج على الآخر بـ(غمغمة) القانون والاجتهادات في تفسير القرار, وقد يكون ما زاد من قوة اعتقادي بعدالة القرار هي تصريحات وزير الداخلية في حينه أن (حملة تصويب الاوضاع) التي أثارت المعمعة التي ما زالت قائمة, أدت إلى منح الرقم الوطني لـ120 ألف أخ وأخت من فلسطين كانوا لا يملكونه,



 في مقابل سحبه من اقل من 3000 مواطن انطبقت عليهم شروط القرار, أضف الى هذا أن القرار انطبق على أخوة من أصول شرق أردنية وأدى الى سحب الرقم الوطني منهم. كل هذا كان مجرد حقائق صماء باردة ليس لها وجه ولا تكتسي ملامح الانسانية, وربما هذا ما دفع كثيرين الى التمسك بهذا القرار والدفاع عنه, وهو أمر كنت وما زلت معه, ولكن.. عندما تكتسي الحقائق دما ولحما, وعندما تستحيل الأرقام بشراً ذوي وجوه وشخصيات وحيوات, تختلف صورة المعادلة وتتغير النظرة. قبل أيام زارني أحد الأشخاص الذين أعرفهم منذ سنوات,



 وقد استغربت تلك الزيارة التي كانت بلا سابق انذار ولا هي معتادة منه, وما أثار استغرابي أكثر كان سببها, حيث جلس الرجل وأخذ يشرح بألم باد قصة ابنه الذي قبل سنوات طويلة وأثناء كونه قاصرا قام بزيارة لبعض أقاربه في الخليل, وهناك زُيّن للفتى من باب توفير النفقات ورسوم تصاريح الزيارة أن يستصدر جواز سفر من السلطة الوطنية الفلسطينية, وذلك ما كان. وبعد أعوام وفيما كان الشاب يستعد لاجراءات الخطبة والزواج فوجئ برقمه الوطني يسحب منه, وهو الأمر الذي أدى في النهاية الى فسخ خطبته وانهيار مشروع زواجه, وبلهفة كبيرة ورعب أخذ الشاب يسأل ليعرف سبب ما جرى, خاصة وأن أيا من أفراد أسرته لم يتعرض لما تعرض له,



 فأُخبر أن السبب هو حصوله على جواز السفر الفلسطيني, وهو أمر يعادل أو بالأحرى هو فعلا يعني حصوله على جنسية السلطة الوطنية الفلسطينية, وهو ما جعله ليس فقط خاضعاً لتعليمات تطبيق قرار فك الارتباط, بل أيضا جعله حاملا لجنسية عربية أخرى خلافا لأحكام قانون الجنسية الأردني. وعبثا حاول الفتى أن يشرح المسألة والقضية, وأن يخبر المسؤولين أنه حصل على هذا الجواز أثناء كونه قاصرا ودون علم أو رضى وليّه القانوني وهو والده الذي كان جالسا أمامي مشتتا مذهولا.. فالواقع القانوني كما الرقم لا يعرف الا الحقائق المجردة.



الأب كان يجلس أمامي شارحا التفاصيل وهو لا يدري أكنت أشعر بما هو فيه أم لا, كما أنه لا يعلم ما هو رأيي في المسألة, كنت أظن أنه يريد مني أن أتبنى القضية وأكتبها, أو ربما يريد أن أبحث له عن واسطة تعيد لابنه أردنيته, لكن طلبا آخر جاء في نهاية الحديث.. (أريد منك أن تكتب لي رسالة استرحام أرفعها إلى جلالة الملك) وبابتسامة متوترة وتعبير بسيط أضاف: (أعطي الخبز لخبازه) -من باب أن الصحفيين (شاطرين في الكتابة والسواليف)- والواقع أن هذه هي المرة الثانية التي يُطلب مني شيء مشابه.. كتابة رسالة او استرحام من باب أنني صحفي ليس إلا.. جلست الى الشاشة وبدأت طباعة الرسالة, وما إن انتهيت منها حتى فوجئت بحجم الانفعال الذي اجتاحني, فمع آخر سطر منها أدركت أشياء كثيرة, لم أستشعرها بهذا الوضوح من قبل؛ منها أن من كبرى مشاكل قرار فك الارتباط -الذي تحمّس قسم كبير من القوى الفلسطينية له في مرحلة ما, لأسباب اتضح عدم نظافتها لاحقا- ما زال مبهما وغير مفصل, إلى حد جعل طفلا ارتكب خطأ (وهو معفى بطبيعة الحال من المسؤولية القانونية والأصل أن تصرفه وما بني عليه باطل) يخسر حياته بسببه ويشتت مع تصرفه ذاك أسرته, سواء القائمة او تلك التي سيبنيها إن هو تزوج وأنجب فيما لا يزال فاقدا للرقم الوطني.



 أمر آخر أدركته وأنا أسمع كلام الأب وطريقة حديثه, وهو أننا في هذا الوطن سواء كنا أردنيين او فلسطينيين, شركسا أو شيشان, سوريين او يمنيين, قبل شراكتنا في الجنسية شركاء في (الحالة الأردنية), وكثيرا ما نغفل عن كم نحن متشابهون كأشخاص, ليس بحكم الانسانية المحضة, بل بحكم أن الظروف التي صاغت هويتنا في هذا الوطن هي واحدة وإن رفض كثيرون الاعتراف بذلك. أيضا أدركت إلى حد ما حجم ومعنى أن تكون ملكا في دولة كالأردن, فهذا الرجل قبل أن يطرق كثيراً من الأبواب قرر أن يطرق باب الملك,



تماما كمن يفكر في طرق باب أخيه عند الحاجة, والسبب ببساطة أن طرقته غالبا لن ترتد خائبة, ولا أعلم إن كان هذا الأمر صوابا أم لا, لأنه يعني أولا أن جلالة الملك بالفعل يحمل الأردن كاملا فوق كتفيه, وهي جملة قالها يوما الراحل الحسين رحمه الله صراحة, ويعني أمرا أخطر من هذا, وهو أننا بعد 90 عاما ونيف من عمر الدولة ما زلنا نفتقد إلى الكثير من الأطر والقنوات المؤسسية الحقيقة التي تسمح لكل مواطن أن يعرف تماما ما له وما عليه, ويعرف إن كان هناك فائدة من اتخاذ أي اجراء هو بصدده, لنتوقف عن اللجوء إلى عقلية (يا صابت يا خابت) ومحاولات (طعج) القوانين و(لف) التعليمات والدوران وراء كل نص. منذ 14 أسبوعاً وعشرات المطالبات الاصلاحية تنطلق هنا وهناك ومعظمها تطلب (عليّوي) وأشبه بالقصف خلف خطوط العدو (ولا أقصد هنا أي اساءة), فهناك الكثير من القصف (المطالبات) لكنها لا تصيب هدفاً لأنها تجاوزت الجبهات أصلا وأغلبها (رايح بووش), ألا تظنون أنه قبل إصلاح الدستور نحتاج إلى إصلاح التعليمات, وقبل تغيير رئيس الحكومة نحتاج إلى تغيير المراسل؟!!؟


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد