التداعيات الإقليمية للأحداث في سوريا

mainThumb

12-05-2011 12:07 AM

على مدى أربعين عاماً ونيف وحزب البعث العربي الإشتراكي السوري وأجنحته السياسية وأجهزته الأمنية تقبض على كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية في الدولة السورية في إطار نظام سياسي شمولي مغلق ، وشبكة مصالح معقدة ، وتنشئة سياسية طلائعية في المدرسة واتحادات الجامعات ، وشتى قطاعات المجتمع المدني ... عبر أفكار وطروحات تقدمية مناوئة للرأسمالية ومجذرة لأفكار القومية العربية وفلسفة إقليمية عربية تتسلح بحالة التضاد مع الكيان الصهيوني.

 

          لم يستوعب النظام السياسي السوري المتغيرات الإقليمية وتداعياتها في الشارع العربي ، من خلال مواقف احترازية إصلاحية في بنيته السياسية وهيكله الأمني وشبكاته المخابراتية القمعية ، التي هجّرت قادة الفكر والرأي وأقطاب المعارضة ، وكمّمت أفواه الناشطين السياسيين وأنصار حقوق الإنسان .. ورغم تطلعات الأسد الإصلاحية منذ وصوله إلى سدة الحكم الجمهوري التوريثي إلا أن أفكاره وطروحاته بقيت تراوح مكانها ، وحبيسة أقطاب الهيكل الأمني الشمولي ومراكز قوى المصالح المتشابكة داخل النظام السياسي ، الذي يرفض حالة الإنفراج السياسي ، والذي يسدي نصائحه للرئيس عبر محاذير مذهبية وطائفية وحدوث إختلال في توازن مكونات المجتمع السوري المتعدد المذاهب والقوميات.

 

          لقد جذّر الأسد الأب حالة الإستقطاب الحزبي الأوحد كنموذج سياسي شمولي وباستحقاق دستوري وبأدوات سياسية أمنية وطروحات راديكالية رجعية تغنّى بها لعقود من حكمه عبر إعلام موجه إشرأبّت له أعناق الكاميرات في الداخل .. وقد عمد إلى تصفية خصومه السياسيين وأفرغ منظومة البعث من محتواها عبر أجنحة سياسية وهياكل أمنية داخل تنظيم حزبي محكم حافظ على ديمومة النطام السياسي ، في إطار شرعية قومية تستمد مرجعيتها من حالة التضاد في الصراع الإقليمي مع الكيان الصهيوني ، وحركة التحرر القومي ، ومناهضة مخططات الرأسمالية في المنطقة التي تساند الكيان الصهيوني ومخططاته الإستعمارية التوسعية.

 

          النظام السياسي السوري منشطر الى جناحين ، فجناح الإصلاح (الحمائم) الذي يقوده الرئيس الأسد يسعى جاهداً الى إحداث تغيير في بنية النظام السياسي وتطوير أدواته الأمنية ، وتحديد اختصاصاته ، وتجفيف منابع الفساد في مؤسساته وتحول إقتصادي في منظومته الإشتراكية لتواكب متغيرات العولمة ومشاريع التخاصية باطراء فرضيات إقتصاد السوق .. إلا أن طموحاته في إحداث هذا التغيير والتحول نحو مِراس ديمقراطي حقيقي تبقى في إطار تسويغات خطاب سياسي ، يستهدف تفريغ الإحتقان السياسي في مكونات المجتمع السوري وأطيافه المختلفة.. بينما يسعى الجناح التقليدي الراديكالي (الصقور) إلى إبقاء الحراك السياسي والإجتماعي في سياقه الطبيعي المعتاد ، وهو الذي يمتلك زمام الأمور في النظام السياسي ، ويحكم السيطرة على الهياكل الأمنية ويدير ثروات البلاد وتوزيع الأدوار في نطاق شبكة مصالح متداخلة ، يصعب تفكيكها أو إختراقها وفقاً لإستحكامات طائفية وكانتونات إجتماعية تقليدية .. وفي خضم هذا التكوين السياسي والإقتصادي في أجهزة الدولة والحزب فرض الجناح الراديكالي سياسته في معالجة الأحداث وادارتها بآلة القمع الأمني وخيار الحسم العسكري ، حيث استفاق أهل درعا يوم الأحد الماضي على أزيز الرصاص وزحف الدبابات وحصار أمني يذكرنا بأحداث مدينة حماة .. يرافقه تعتيم إعلامي وحملة إعتقالات لناشطين سياسيين ومحتجين خرجوا بمطالب خدمية وتظاهرات سلمية تحمل أغصان الزيتون ، ثم تطورت الأحداث بعد المعالجات الأمنية الأخيرة إلى حد المطالبة بإسقاط النظام وبخاصة بعد أن أظهر الرئيس بياض نواجذه في مجلس الشعب (مجلس المصفقين) والدماء تنزف في شوارع مدينة درعا..

 

          منذ وصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا بسط نفوذه وهياكله الأمنية داخل لبنان عبر تحالفه مع مذاهب وطوائف وأحزاب سياسية ، بحجة تحصين خط دفاعي أمني تجاه الكيان الصهيوني ، وقد أشعل الجناح العسكري السوري على الأرض اللبنانية فتيل الأزمة في لبنان عبر الإستقطاب المذهبي والحزبي ، وبقي ردحاً من الزمن المحرك الأساسي لأحداث لبنان يفرض سياساته وشروطه على النظام السياسي اللبناني ، وفقاً لإتفاقات أمنية ودفاعية وهمية تدعمها أحزاب وقوى سياسية لبنانية مرتبطة عقائدياً مع السلطة في دمشق .. وما أن وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها عبر اتفاق الطائف وخروج القوات السورية من الأراضي اللبنانية عمد النظام السياسي السوري الى إعادة ترتيب أوراقه على الساحة اللبنانية ، من خلال الدعم اللوجستي وشريانه الممتد من طهران الى حزب الله في إطار رسم جيوسياسي ، يهدف إلى إكتمال الهلال الشيعي وحلقاته المتصلة بالمرجعية السياسية والإستراتيجية في طهران.. وهذا الرسم الإستراتيجي والتحالف السياسي المبني على أساس عقائدي يثير حفيظة دول الجوار والخليج العربي ، إذ أظهرت التجارب السياسية في حرب العراق وما آلت إليه الأوضاع السياسية هناك خطورة أبعاد هذا التحالف ونفوذه المتنامي في المنطقة .. وقد ساهم النظام السياسي السوري في هذا التنامي واكتمال حلقاته ، والذي يعتبر في الوقت ذاته رئة حزب الله في تنفيذ أجنداته في الساحة اللبنانية ، وكفاحه المسلح مع الكيان الصهيوني نيابة عن حكومة طهران.

 

 

 

          تتابع دول الجوار تداعيات الأحداث في سوريا عن كثب ، حيث ترقب تركيا تداعياته وتسدي النصائح إلى النظام السياسي في مسارات الإصلاح عبر تغيير جذري في بنيته ، وضرورة احترام خيارات الشعب السوري وحقه في ترسيخ نظام ديمقراطي عبر صناديق الإقتراع ، فالقلق التركي مرتبط بالإمتداد المذهبي والقومي عبر الحدود بين البلدين ، وحساسية الموقف في حالة حدوث إنفلات أمني كما حصل في حالة العراق عقب سقوط النظام العراقي.. وفي الوقت ذاته يراقب الأردن المشهد السياسي في سوريا ويدرك خطورة الأوضاع هناك ، وما ستؤل إليه نظراً للإرتباط التاريخي بين البلدين والأمتداد العشائري على ثغره الشمالي ويحترز لموجة هجرة قسرية قد تحدث في المستقبل كما حصل في أزمة الخليج.

 

          لم يُقنع النظام السياسي في سوريا المجتمع الدولي بمبررات قمع المحتجين كسائر الأنظمة التي تهاوت مؤخراً أو تلك التي في طريقها إلى السقوط ، فتارة يتحدث عن مندسين في صفوف المتظاهرين ، وتارة يتحدث إعلامه عن مؤامرة تحاك له في الخارج ، وأخرى تتحدث عن تيار سلفي لإعلان أمارة من المسجد العمري في مدينة درعا .. تلك الفزاعات والفبركات الإعلامية لاتنطلي على المجتمع السوري أو المجتمع الدولي .. بل هي ذرائع ومبررات للمجتمع الدولي في التدخل في الشأن السوري نظراً لإنتهاك النظام السوري حقوق الإنسان وإرتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية وقمع المحتجين سلمياً في التعبير عن آرائهم ومطالبهم المشروعة .. وفي الوقت ذاته وجدت المعارضة بيئة خصبة في إيجاد عتبة داخل الشأن السوري عبر تدويل الأحداث ونقلها من سياقها الطبيعي إلى إستحقاقها الدولي.

 

                 والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن أين تقف إسرائيل من تداعيات الأحداث في سوريا؟!

 

          لم تبوح إسرائيل بأسرارها وموقفها تجاه الأحداث في سوريا .. بل تتحدث عن ضرورة إشاعة الأمن والإستقرار الدوليين في المنطقة ، والواقع أن أجنداتها متصلة بتقطيع أوصال الهلال الشيعي ، وعزل حراك حزب الله على الساحة اللبنانية عن النفوذ الإيراني الذي يعلن جهارة عن ضرورة إزالة إسرائيل من الخارطة السياسية في المنطقة .. وتبقى إتفاقات السلام مع الجانب السوري وفقاً لإستحقاقاتها مرهوناً بإشتراطات إسرائيل بعقيدتها التلموذية المتصلة بميزان القوى وإرادة المجتمع الدولي في تحقيق الأمن والإستقرار الدوليين وفقاً لترتيبات أمنية وإحلال أنظمة ديمقراطية في شرق أوسط جديد.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد