صحيفة السوسنة الأردنية

السنة 2027 والشهر تموز والليلة الجمعة والساعة تشير الى التاسعة.... والمكان جلسة على البرندة حيث تتسلل بعض النسائم الخفيفة لتكسر قسوة الحر ... والحضور مجموعة من الجيران (ابو زاهر، ابو لورنس، ابو حسن، ابو رعد،...) جمعهم سهر الصيف وحدث جلل وبطيخة في الزاوية البعيدة شغلهم عنها حديث يشغل الاردنيون جميعا.

غير بعيد يجلس احمد الشاب الجامعي يضغط بعصبية على مفاتيح اللاب توب بينما اخوته الصغار في نقاش حاد حول لون البطيخة وموعد الهجوم عليها.

منذ ثلاثة ايام توقف الحديث عن الاعراس والوفيات والتوتر السائد في المنطقة العربية ولم يحدث أي نزاع بين الجيران ولم تسجل حالة قتل اسري فالجميع يشغله الحدث الأهم ويترقب الأخبار والاشاعات حول ما جرى في المفاعل النووي. يبدأ الحديث بالسؤال هل سمعتم ما حدث ؟ الاخبار والاقاويل متناقضة .. لا لا تقل متناقضة (يتدخل ابو زاهر بغضب) فقد رأيت بعيني الدخان يتصاعد فوق المفاعل ... ويقاطعه الحديث ابو حسن : انا من مصدر مهم (صراحة يشتغل بالمفاعل ومعه مفاتيح كل غرفة وهو الذي يصنع الكعكة الصفراء) لقد اخبرني الحقيقة منذ زمن بأن المفاعل على وشك الانفجار ..الله يستر... ويتربع ابو رعد ليستلم زمام الحديث:" القصة مش بحاجة الى شرح انا مريت اليوم من جنب المفاعل وشفت الموظفين بحالة طوارئ.. كلهم يركضوا وحاملين مضخات مياه، وطفايات حريق ويلبسوا مثل الدفاع المدني...... ومنعوا الإجازات ".

 يصرخ المعزب سكوت سكوت ولا كلمة .... الاخبار بالتلفزيون ، يسكت الجميع دو مبالاة بأسلوب المعزب الفض: اعلن مدير المفاعل بأن ما جرى منذ ثلاثة ايام هو عبارة عن انفجار لمحول كهرباء خارج مبنى المفاعل وتم السيطرة عليه وتم اصلاحه فورا ولا صحة للأنباء التي تتحدث عن عطل او تسرب في المفاعل ونطمئن الاخوة المواطنين بأنه لا يوجد ما يدعو للقلق.. يخرج وزير الداخلية ويقسم بشاربه المحفوف من جهتين بانه لم يحدث شيء غير اعتيادي وان الوطن بخير، بجانبه وزير الطاقة وقد حلق شعره على الصفر وأكد ان الطاقة يتم توليدها من المفاعل بشكل اعتيادي ورفع يده اليمنى للكاميرا وطلق زوجته ثلاثا تأكيدا للكلام ، واخيرا خرج رئيس الوزراء امام الصحفيين وانكر وجود أي مشكلة وعندما ضيق عليه الخناق من الاسئلة وقف محتدا وقال" علي ومن لبسي للعقال لم يحدث أي شيء" وهنا تدخل الناطق الرسمي للحكومة لتدارك الامر واغلظ القسم " علي ومن حلال املكه ان الرئيس صادق" وتتوالى التصريحات والقسم والحلف ...... يجلس ابو زاهر على ركبتيه ويرفع يده بعصبية " عمرهم ما صدقوا بدكم يصدقوا اليوم، قالوا انهم مارح يفرضوا ضرائب وكذبوا وقالوا انتخابات نزيهة وتنمية عشرين بالمئة ووظائف وقالوا وقالوا.." ويسرع الى التلفزيون ليبحث عن قناة اخرى ولكن خانته ازرار الريموت فيضربه ارضا ويبدأ البحث اليدوي وتتوالى الاخبار العاجلة: انفجار في المفاعل النووي ، انباء عن اعلان حالة الطوارئ في الاردن، شاهد عيان يؤكد، لقاء مع مدير المفاعل، مساعدات تقنية، انباء عن حالات اختناق...... يتدخل احمد: "اسمعوا المكتوب على الانترنت والصحف الإلكترونية": تم تعطيل الدراسة في مدرسة الخالدية الثانوية للبنات ومدير التربية يؤكد ان السبب خلافات بين مدير المدرسة والاهالي، انباء عن خروج قافلة نزوح من السيارات تغادر الهاشمية والمتصرف يؤكد انه موكب عرس، راجع مستشفى الزرقاء عدد من الحالات المرضية من منطقة الزنية ومدير المستشفى يفيد بانها حالات تسمم غذائي، شوهدت اعمدة الدخان تتصاعد من منطقة المفاعل ورئيس البلدية يؤكد انه حريق لا حدى المزارع في المنطقة، وافاد عدد من الاهالي بأنهم لاحظوا رائحة غريبة هذا الصباح ولقد شعروا بالغثيان والدوار... ، في لقاء مع احد مربي الماشية في المنطقة اخبرنا عن ولادة خروف بنصف رأس وست أرجل وانه في السنة الماضية لم تحدث حالة توائم في المزرعة ، ومواطن اخر افاد بان ابنه في الصف العاشر نسي جدول الضرب، وان زوجته تظن ان العصمة بيدها فأقسمت عليه... وكثير من الغرائب في تلك المنطقة والتي ظهرت منذ انشاء المفاعل .. وللوقوف على اسباب هذه الظواهر وارتباطها بالمفاعل يسرنا ان نستضيف خبير الصحة العالمية ... تتوالى التقارير وشهود العيان وافادات المراسلين، تزداد حركة القنوات الفضائية والبث المباشر وبالمقابل يستمر رئيس الوزراء والوزراء بالحلف والقسم، اما على البرندة فتستمر الثرثرة بشكل يومي ويزداد الحضور وتزداد أعداد الاب توب. يستمر الحدث عشرة ايام ثم تهدأ وتيرة التقارير وتتصاعد نبرة القسم والافتخار لدى الوزراء ويبدأ حديث البرندة بالهدوء التدريجي ويتغيب عن الحضور بعض الجيران الى ان يجد المعزب نفسه مع اولاده عندها يتنفس بعمق ويطلب البطيخة والسكين.

اكتشف الجميع صدق رواية الحكومة وان الرئيس وطاقمه لم يحنثوا بقسمهم ومدير التربية ورئيس البلدية ومدير المستشفى جميعهم صدقوا بما قالوا وان التقارير الالكترونية والعالمية كانت غير صحيحة ومتسرعة وانه لم يكن هنالك داع للخوف او الهلع وأن الخبر الصادق يجب ان يتلقى من مصدره وان التصرف الأمثل للتعامل مع الحدث يجعلنا نخرج من الكارثة ونتجنب الأخطاء.

ان سلوك المواطنين خلال الازمات وعدم تصديقهم للرواية الحكومية وتوجههم الى المصادر الاخرى يمكن تفسيره بأمر واحد هو الثقة: فالحكومات المتعاقبة فقدت الثقة وفقدت المصداقية ولم تستطيع ان تجلب لصفها مشاهد او قارئ الا اذا كان جزء منها وبالتالي اصبحت تلك الحكومات تكذب وتصدق هي كذبتها فتروج لها ثم تروج لكذبة اخرى ان المواطن صدق كذبتها، بينما على الطرف الاخر يعلم المواطن ان الحكومة تكذب عن نفسها وبالنيابة عنه ايضا.

عندما حدثت كارثة المفاعل النووي الياباني طلبت الحكومة من السكان المغادرة فغادر الجميع دون تردد لعلمهم ان الحكومة تعمل لمصلحتهم وانها أقدر على التقدير وصادقة في الاعلان والاعلام فترك الفلاح مزرعته والتاجر قاصته والصانع آلاته وعندما طلب منه العودة عادوا دون تردد ولا خوف لعلمهم ان الضوء أخضر وان الحكومة تيقنت بعدم وجدود ضرر ولهذا سمحت لهم العودة فلبوا النداء، انها مسألة ثقة حصلوا عليها وافتقدناها.

اذا اردنا بناء الاردن كما يليق بنا وبه وبقيادته واردنا ادارة مشاريع عملاقة (بمستوى المفاعل) بكفاءة ومهنية عالية فعلينا ان نخلق الثقة وحتى نخلق الثقة علينا ان نصدق وكيف نصدق دون تحقيق الشفافية ولتحقيق الشفافية علينا بالعدالة وحتى نحقق العدالة علينا بتساوي الفرص ولا يمكن ان تتساوى الفرص الا بالديمقراطية الحقيقية.