يا فرحة ما تمت

mainThumb

27-12-2011 02:07 PM

نعلم جيدا أن التعليم هو من أهم ركائز الأمن القومي للأمة , وأن الدور الذي يقوم به المتعلمون لا يقل عن الدور الذي تقوم به الجيوش بل يسبقه ويتكامل معه ويرفده,  وأن قضية التعليم تتصل بمستقبل الأمة , وأن لدى الدول الايمان القاطع بأن خريجي الجامعات هم اللبنة الحقيقية الذين سيشكلون القوى العاملة والدرع الواقي لها , وأنهم سيكونون ان شئنا او أبينا اللاعبين الرئيسيين على مسرح المجتمع المعولم, وأن طبيعة تقدمهم وعطائهم سيتوقف على ما يتاح لهم من تعليم جيد. وبناء على هذا أخذت الدولة على عاتقها عبر السنين تطوير التعليم والشروع برسم الخطط التنموية عن طريق فتح الجامعات وتشجيع المستثمرين لتأسيس الصروح التعليمية من معاهد متوسطة وجامعات مع السير قدما نحو الارتقاء في منح الدرجات العلمية المختلفة حتى تصل الى درجة الدكتوراة في مختلف التخصصات الأكاديمية. 

ان عملية التعليم بشكل عام والتعليم الجامعي بشكل خاص لهما أبعاد كبيرة وخطيرة في آن واحد , لأن عملية التعليم ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية ونفسية وثقافية وبقائية بالاضافة الى كونها عملية مستمرة ليست مربوطة بزمان ومكان وجيل معين. وقد اعتبرها الكثيرين أنها ثروة كبيرة لا تقدر بثمن مع وجوب مواكبة التعليم الجامعي للتطور العلمي. 

ومن مزايا فتح الجامعات أنها تساعد الدولة على بناء المجتمع على قواعد وأسس علمية سليمة , وتحسين صورتها الثقافية والعلمية بين الأمم , واثبات وجودها على كافة الأصعدة , والرقي بالمستوى العلمي لأبنائها ,  وتأدية كل الوظائف التي يفرضها المجتمع , وتمكينها من الوقوف في وجه التحديات ومعالجتها, ومساعدة الطبقات الفقيرة في تحسين أوضاعها المعيشية , وتيسير فرص العمل للأفراد, واستغلال قدرات الطلبة العقلية بمختلف أعمارهم وطاقاتهم وتوظيفها لصالح المجتمع , وصناعة الانسان الذي سيقود الأمة نحو التغيير الهادف والبناء على مختلف الأصعدة. فالمؤسسات التعليمية تعمل على تغذية المجتمع بقيادة مستقبلية في كافة المجالات لأن التعليم كما اسلفت هي عملية صناعة الأجيال , وقد قيل "اذا أردت أن تبني لسنة فابن مصنعا وأما اذا أردت أن تبني للحياة فابن جامعة" وقال "بسمارك" (بأن المعلم الألماني هو الذي مكن الألمان من احتلال باريس وليس الجيش), مما يدل على أهمية التعليم في الحفاظ على هيبة الدولة وقدرتها على مواجهة التحديات وبسط النفوذ حتى لا يخاطر أحدا بعدائها.

 وبناء على هذه المعطيات ونتيجة لما شعرت به الدولة من أهمية ومكانة الجامعات في اعلاء شأنها بين الأمم وفي خلق روح التنافس الشريف بين أبنائها على مختلف المستويات , وايمانها بأن ميزان الرقي والتقدم لأي دولة لا يقاس الا بمستوى العلم الذي وصلت اليه, ودورها الفعال في خدمة المجتمع , وتوفير العملة الصعبة التي كانت تثقل كاهل الحكومة وكاهل أولياء الأمور لتأمينها , والاحتفاظ باحتياطها داخل الوطن بدلا من اخراجها, فقد أعطت الضوء الأخضر بفتح المجال للمستثمرين لتأسيس الكليات والجامعات بكافة تخصصاتها واعطائها حق منح الدرجات العلمية المختلفة شريطة اعتمادها من مجلس التعليم العالي, وهكذا شرع المستثمرون ورجال الأعمال ببناء الصروح الجامعية في مختلف المناطق ومن ضمنها "جامعة عمان العربية" للدراسات العليا التي أخذت الترخيص الرسمي وتم اعتمادها من وزارة التعليم العالي ومجلسها الموقر.

وباشرت الجامعة بعد فتحها بالدعاية الاعلامية لها عبر وسائل الاعلام المختلفة المرئية منها والمسموعة التي أغرت الجميع بنوعية وتميز أساتذتها وامكانياتها, وقدرتها على اتاحة الفرصة لموظفي الدولة للالتحاق بها عبر توفير مقاعد دراسية لهم في الفترة المسائية لتكون حقا جامعة للجميع , وقد أقبل عليها الطلاب بالرغم من ارتفاع أقساطها, وشرع الطلاب بتقديم طلباتهم بهدف الحصول على أعلى درجات العلم كونها الجامعة الأولى التي فتحت أبوابها للدراسات العليا في ذلك الوقت حيث كان الواحد منهم متلهفا لاستغلال أية فرصة تتاح له داخل بلده لمواصلة تعليمه العالي, وتحسين وضعه الوظيفي والنفسي والاقتصادي, ولاكتساب الخبرة المطلوبة في مجال تخصصه ليكون عضوا فاعلا في مجتمعه مؤديا واجبه على خير وجه. 

وهكذا بدأت المسيرة وانتظم الطلاب على مقاعدهم الدراسية ومضت السنة تلو السنة ونال كل منهم شهادة الدكتوراة , وسار كل الى بيته فرحا حيث قام الأهل بعمل الحفلات ابتهاجا بهذا الخبر السعيد , وزاره الأحباب لمباركته , ودارت الأيام واذا به يفاجئ بالرفض واستبعاد طلبه عند تقديمه لأية جامعة لأنه يحمل شهادة تلك الجامعة , علما أن شهادته مصدقة من وزارة التعليم العالي ومعترف بها على مستوى الدولة. 

وتأكيدا على ذلك فقد التقيت بأحد الخريجين من تخصص "مناهج وأساليب تدريس اللغة الانجليزية" صدفة وسألته عن أحواله بعد مرور أكثر من 4 سنوات على تخرجه ففاجأني قائلا واحسرتاه ! لقد أهدرت مالي وأضعت جزءا من شبابي تكريسا للعلم دون فائدة , وها أنا ما زلت أبحث لعلي أجد مآلي , وبدأ يتمتم بصوت حزين ويتولول مناجيا الله الفرج , وما زادني اثارة الا عندما قال لي "تمنيت لو أنني لم أدرس ولم أحصل على هذه الشهادة , وزادني دهشتي أكثر عندما أردف قائلا وبمرارة , أني أريد تمزيقها ورميها في سلة المهملات لأن وجودها يسبب نكدا لي" , وواصل قائلا أما سمعت ما أقره مجلس التعليم العالي بعدم قبول خريجي مناهج وطرق تدريس اللغة الانجليزية في قسم اللغة الانجليزية, علما أن أطروحتهم باللغة الانجليزية, وأخذوا مساقات باللغة الانجليزية , وبعد احتجاجاتهم تراجعوا عن قرارهم وأوصوا بامكانية التحاقهم بالقسم تحت شروط معينة ولكن للأسف لازالت الجامعات لا تستجيب لهذه التوصية.

هذا حقا شدني أن أطرح تساؤلات كثيرة,  لماذا تفتح أبواب الدراسات العليا في الجامعات اذا لم يتوفر لخريجيها الفرصة للتدريس في جامعات الوطن حتى وصل الحد الى استبعادهم من نفس الجامعة التي تخرجوا منها ! أليس هذا ظلم لهم ! هل فقدت الجامعة قدرتها على التنافس وقيادة التغيير الاجتماعي والتنوع ! أليس الأجدر بها أن تتحمل مسؤولياتها في اقناع من يهمهم الأمر بكفاءة خريجيها وقوة برامجها التعليمية ! وهل يتوقف دور الجامعة في تخريج أفواج من الطلبة دون متابعتهم ودراسة مشاكلهم والوقوف عندها لايجاد الحلول المناسبة لها ! أتقبل أي جامعة ما أن تحمل بذور دمارها بنفسها ! أليس من واجبها الافتخار بخريجيها لجودة التعليم لديها وكونها رديفا للدولة في تصحيح بنياتها الاقتصادي المنشود ! ألم يتضمن كادرها الاداري والأكاديمي الصفوة من أهل الخبرة والعلم كل في تخصصه ! ألم تستقطب الأساتذة الكبار المعروفين في الجامعات الأردنية وأصحاب المناصب العليا أهل الخبرة في كادرها ! ألم تنشأ الجامعة لكي تواكب الانفجار المعرفي وتأهيل كوادر فنية قادرة على مواجهة التحديات ! وهل المساقات التي يدرسها الطالب قد أكل عليها الدهر وشرب ولم تعد تنفع فلا يكون لدى الخريج القدرة على التدريس في الجامعات ! أم هذه المساقات مستبعدة عند الجامعات الأخرى ! أليست قادرة على تفعيل دورها لتضع نفسها على مصاف أرقى الجامعات حيث لا ينقصها المال ولا البنيان ولا حتى الكوادر المؤهلة! ألم تضع الجامعة الخطط التدريسية التي تضاهي خطط غيرها من الجامعات العالمية علما أن القائمين عليها هم من الصفوة الصفوة وخريجي أرقى الجامعات الأميركية والبريطانية !

 أليست لها الحجة لفك لغز الاستهتار الذي يصيب خريجيها عند تقديم طلباتهم ! والى متى سيبقى خريجوها عاطلين عن العمل, أما يكفينا بطالة ! ومن سيدافع عن حقوق الطلبة المكتسبة ! وهل الهدف من انشاء الجامعات هو التخريج ثم زج الخريجين في الشوارع لا يعرفون أين المصير ! وهل التباهي بنيل الشهادات من الدول الأجنبية أصبح سلوكا متفشيا في مجتمعاتنا فلا أحد يتعين الا بشهاداتها ! وان كان الأمر كذلك فلماذا لا تغلق أبواب جامعاتنا وأن يقتصر التعليم العالي على السفر خارج البلاد للحصول على تلك الشهادات ! أليس لنا الحق أن نعتمد على ذاتنا فنبني الجامعات الخاصة لنؤهل كوادرنا بأيدينا وننتج الأبحاث العلمية التي تضاهي الجامعات العالمية بل وأجود منها ! وهل فتحت الجامعات لزيادة البطالة بدلا من مساعدة المجتمع على القضاء عليها ! أم فتحت لمحو الأمية ! ألم يشكل السفر الى الخارج في بعض الأحيان لاكمال الدراسة خطرا على أمن الدولة والتأثير على ثقافة وعادات وتقاليد مجتمعها الذي نشأوا منه وترعرعوا فيه ! أما آن للدولة أن تتحمل مسؤولية عدم تعيينهم وأن تهتم بعدالة قضيتهم ! أما آن للقائمين على الجامعة أن يخرجوا عن صمتهم ويرفعوا أصواتهم مستنكرين التعدي على حرمات شهاداتهم التي منحوها لطلابهم ! ألم يشرف على الأغلبية من  أطروحات الدكتوراة أساتذة من تلك الجامعات المعتمدة  ويناقشها أساتذتهم الكبارلاعتمادها والتوقيع عليها ! أما آن للجامعة أن تناقش تسلسل ومراحل حصول الطالب لهذه الشهادة مع مجلس التعليم العالي حتى تبين لأعضائها وبالدليل القاطع أن لا فرق بينها وبين أي جامعة عالمية أخرى !

كم أحزنني موقف ذلك الشاب الطموح المفعم بالحياة الذي كافح حتى وصل الى مبتغاه , ثم جلس في بيته دون أن تسأل عن مصيره الجامعة أو حتى القائمين على زمام الأمور في وزارة التعليم العالي ! لقد صمت هؤلاء الخريجون طويلا وهم يلمسون ما يلحق بهم من أذى على مختلف المستويات ومن استبعاد لشهاداتهم التي حصلوا عليها بعد جهد وعناء متواصلين , ولكن ذاك لا يعني أن صمتهم هذا هو تفسير بالرضى والخنوع, وكما قيل "احذر الحليم اذا غضب" , وها هم اليوم يناشدون من يهمهم الأمر بالنظر الى عدالة قضيتهم , وأن ما ادخروه من كتمان طيلة تلك السنوات على الذل والاستهانة بمؤهلاتهم وعدم استيعابهم في التدريس في الجامعات سينفجر , وما تعيين القليل القليل منهم في جامعاتنا الا لكونهم يحملون في جيناتهم "فيتامين واو" الذي يوفر لهم الدعم والأولوية,  وأما الأكثرية الباقية فما زالت تنتظر رحمة الله وفرجه عما حصلوا عليه من مصاب وتوريط. 

هذه رسالة لكل من له علاقة بهذا الأمر أحببنا توصيلها لهم لمراجعة مواقفهم والنظر اليها بعين الرحمة, فقد نفذ صبرهم ولا يستطيعون الصمت على اهانتهم أكثر من ذلك . فعلى الجامعة تحمل مسؤولياتها لايجاد حلول لخريجيها وهي أمانة كبيرة يثقل بها رأس حاملها , ولتكن على قدر الثقة التي أولاها طلابها بها, فطوبى لمن يتحمل هذه المسؤولية ويصمد فيها للدفاع عن حقوق خريجيها المكتسبة, فيعيد ثقة أفراد هذا المجتمع بها . وهكذا هي حالة فرحتهم التي لم تتم , فصبر جميل والله المستعان على ما يصفون.  وأكتفي بالتعبير عن لسان هؤلاء قول الشاعر:

كفاك غدرا يا زمان فانني                        ذقت المرار فما عدت أطيق

أين الفرار ان كان الدهر قد ذلني               لم تر النور عيني ولا أبصرت طريق   

كيف الحياة وكيف العيش يا رب دلني        ومتى الخلاص يا رب ومتى العتيق


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد