لمن العصمة ؟

لمن العصمة ؟

03-01-2012 11:52 AM


 قبل اكثر من ثلاثين عاما كانت البرندة ملتقى الجيران والاصدقاء وخاصة في فصل الصيف حيث يجمعهم طيب الحديث وصدق الاحساس وعذوبة العشرة. شكى احدهم من سوء تصرف المسؤول اثناء مراجعته بمعاملة رسمية وظهر عليه الضيق وهو يشرح كيف صرخ المسؤول في وجهه وكاد ان يضربه، وبدأ الحاضرون يخففوا عنه والكل على استعداد للمساعدة وانه تربطه بالمسؤول علاقة قوية واحدهم ذكر انه يعرف عمه واخر يعرف ابن اخته وثالث غمز بأنه يعرف كيف يدبر الامر. 

استأت انا من تصرف المسؤول ومن مخططات ارضاءه من قبل الحاضرين وخرجت عن صمتي وقلت "انا لو مثلك اخذت حقي بيدي" عندها تبسم ونظر الى والدي (رحمه الله) وقال " ابنك هذا لو احد يسمعه يروح بداهيه ما تعرف ان كلامه ممكن يعتبر قدح مقامات عليا وسوف يحاكم امام محكمة العدل العليا" نظر الي والدي بغضب فسكت ولم اعرف ما معنى مقامات عليا وما معني قدح وماهي العدل العليا. 

بقيت الاسئلة في ذاكرتي وحاولت ان ابحث عن معاني الكلمات وبقي اسم المسؤول يتردد في السهرات والحديث عن سلطته ونفوذة وعلاقته بفلان ورضاه وغضبه واخيرا علمت بأن الشخص المسؤول والذي وصف بأنه مقامات عليا هو رئيس ديوان المتصرفية حيث كان مصدر قوة لمن كسب وده وهو ايضا مصدر تهديد لمن باء بسخطه وهو معصوم من الخطأ والمساءلة وهو فوق القانون واعلى من ان يشتكى عليه. كان يستمد عصمته من سيده المتصرف والذي اخذ عقد العصمة ايضا من المحافظ الذي لديه عصمة اكبر توحى اليه مباشرة من وزير الداخلية المرتبط بقداسة رئيس الوزراء والاجهزة الأمنية حيث تخط صكوك العصمة وتوزع عقود الحماية.

 في التسلسل الادنى فان العصمة ايضا موجودة ولكن برتب اقل حتى يدعى شيخ العشيرة انه يملك صك العصمة وكذلك المختار الذي يمثل الدولة كحاكم اداري واحيانا تتداخل الكلمات لديه ليعلن انه حاكم عسكري. ثقافة العصمة لم تكن مقتصرة على وزارة الداخلية بل في كل الدوائر والمؤسسات هنالك سلسلة من العصمة تمتد من الوزير او المدير وتنتهي بسائق وحارس ومراسل الوزير.... وبناءً على ذلك ربما يتجاوز اعداد من ينعمون بالعصمة في الاردن عدة الاف. 

عندما حدث الانفتاح الثقافي والحضاري رأت الحكومات ان العصمة الروحية لم تعد تجدي وان هنالك حالة كساد في الترويج لها فخرجت بفكرة جديدة وهي العصمة الشرعية أي ان العصمة يمكن ان تمنح من الحكومة ولكن بصورة قانونية بدلا الاعتماد على اسلوب الترويع والخرافات في فرض هيبة العصمة. فلجأت الى سن القوانين والانظمة والتعليمات التي تشرعن العصمة وتضفي عليها الصبغة العصرية واصبح الانكار للعصمة كفر يوجب الخروج من الملة ويستوجب الحد. 

بدأ التطبيق فاصبح الحديث عن الفساد المالي يعتبر تهديدا للاقتصاد الوطني، والحديث عن تلوث الخضار في سيل الزرقاء هو ضربا للأسواق الاردنية في كندا، والتعليق على خلل في سلوك رجل الامن هو انحياز مع اعداء الوطن، والحديث عن تجارة السفراء في الخارج فيه اساءة للسياسة الاردنية وبالتالي ستؤثر على حصول الاردن على مقعد دائم في الامم المتحدة، والابلاغ عن عدم توفر كتاب الصف الرابع في مدرسة المخيبه هو مساس بصورة التعليم في الاردن وطعنا في الكفاءات الاردنية، والتصريح لإحدى المحطات الاجنبية عن ارتفاع سعار اللحوم يعني انك تتلقى دعما من جهة ما وتزعزع الامن وتروج للإشاعات. كل التهم يمكن ان تؤدي بك الى تهمة كبرى كالتآمر على الوطن ومساعدة العدو وبعد محاولات كثيرة ربما تفتح لك طاقة نجاة لتخرج براءة عندها تعود الى البيت وتتحلى بصفات المواطن الصالح بان لا تتدخل بما لا يعنيك. 

هذه السياسة وما افرزت من نتائج ادت الى تكميم الافواه والسكوت عن الخطأ وفي نفس الوقت تم تحصين الخطأ واصبح يملك عصمة وحماية لا يمكن لاحد ان يتجرأ عليه. مشروع قانون هيئة مكافحة الفساد بما يضمه من تعسف المادة ( 23 ) يمنح العصمة والحصانة للفساد والمفسدين ويجعل من الصعب على احد ان يلفظ اسم احد المفسدين بسوء واذا غامر في ذلك فعليه ان يثبت او يبيع بيته ليدفع غرامة اغتيال الشخصية. انه من المضحك المبكي ان تطلب الحكومة من المواطن ان يثبت الفساد على احد وكيف يستطيع ذلك اذا لم يكن شريكا له؟؟ ثم اليس يكفي المواطن عبء الضريبة والفواتير والاقساط وانقطاع المياه وارتفاع الاسعار ليضاف اليه عبئا جديدا وهو اثبات الفساد على فلان؟ اليس في هذا القانون جناية بحق الوطن والمواطن؟ اليس في اقراره من مجلس النواب اشارة الى ان المجلس يوافق على منح العصمة للفساد؟.

 بالرغم من فتح عدد من ملفات الفساد وتوجيه التهم لعدد من المسؤولين الا انه مازال هنالك عدد كبير لم نجرأ على الاتصال بهم او التحقيق معهم لانهم يملكون صك العصمة شئنا ام ابينا وعليهم دائرة حماية لا يمكن ان تسقط حتى لو سقطت كل الحناجر الغاضبة وكل الأفواه الجائعة. في الدستور الاردني " الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية" ولم يمنح الدستور هذا الحق غير جلالته وبالتالي فأن كل مواطن تحت القانون يسأل ويتهم فإما ان يبرأ او يدان، ومن جوهر الدستور فإنني لا ارى عصمة الا لمن عصمه الدستور.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد