السلام عليكم ورحمة الله سيدي أبا راشد،
ما سأتطرق إليه هنا هو مجرد تعليقات تلميذ على قول معلم وارف الظل، غزير المعرفة، واسع البصيرة. ليس لأنني مقتدرا وأرى ما لا ترى، لا سمح الله، بل لأن الله اختار لي أن أكون بين أناس مسافات من الزمن لم تتح لكم مثلها أن تكونوا بينهم، ربما زرتهم، لكنهم في وقت زيارتك يطربون فرحا، ويظهرون البهجة، وينسون المطالبة بالحاجة، فيعودون بعد الزيارة إلى ألم الواقع، وشظف العيش، ومعاناة كلكل الحرمان.
فاسمح لي سيدي أن أجول بفضاء أفكارك الرحيب. أعجبتني إشارة سموكم إلى الخلق الأردني، فنحن كبدو سبغنا الأردن بأخلاقنا وآن لنا أن ننتقل إلى الدور الأعلى: الدور الاستقراري، وكما هجرنا الترحال فنحن بحاجة للانتقال للدور المدني، في ظل حكومة لا تنظر إلينا فقط كعشائر بل كمواطنين متساوين، فلا عشيرة أكبر أو عشيرة أصغر، ولا ابن شيخ متنفع، وابن شبح محروم.
آن أوان الدولة المدنية التي يتساوى فيها المواطن ومن وُكِّل بالشأن العام أمام القانون متساوين، في ظل رمز البلاد جلالة الملك حفظه الله ووفقه ورعاه. قبل أيام كان ساركوزي يسير في أحد أحياء باريس فانبرى له رجلا فرنسيا بالنقد حتى بلغ حد التجريح، لم يكن من ساركوزي إلا أن دعاه للإليزيه، فرفض الرجل الدعوة. لم يعاقب الرجل، ولم تتابعة الأجهزة الأمنية، وأنت تعرف كم هي قادرة وقاهرة تلك الأجهزة في خدمة الشعب الفرنسي، ولا دخل لها في المحافظة على المسؤول خوفا عليه من "اغتيال الشخصية".
وتعرف سموك أنه ليس هناك شيئا اسمه اغتيال الشخصية إلا في البلاد المتخلفة التي تتكاثر فيها الشخصيات القابلة للاغتيال. في البلاد المتخلفة الشخصيات تغتال نفسها، حين لا ترى ما يراه المواطن العادي، وتظن أن المواطنين لا يعرفون، وتبقى تلك الشخصيات الموبوءة سادرة في غيها متحصنة خلف فسادها! وأشرت سموك، بتواضع عرف عنك، أنك لست طامعا في موقع رسمي بقدر ما تكون في خدمة الأردن، ولا يخفى ذلك على أحد منا أبدا، ونعلم أنه جزء مما آل إليك من مدرسة الأب الباني الحسين، تنزلت عليه شآبيب الرحمة والرضوان: تواضعا مقرونا بالقربى والمودة.
لكن ما أنت عليه من الإمارة لا يمنحك مذاق الحرمان، والاندفاع للتنافس غير المتكافئ مع أهل الحظوة، وليسوا أهل القدرة أو الكفاءة. وأُأَكِدُ لك أن الحراكات الشعبية الأردنية هي تحركات خجولة مقيدة بالعرفان الجميل لآل هاشم بناة هذا الوطن، صحيح أن تلك الحراكات تحمل في ثناياها بعض الزوان، لكن القمح أكثر.
أما إن كنت تقصد الربيع العربي في سياق حديثك عن "الحراك الشعبي في الوطن العربي"، فأنا كتلميذ مدرسة الحسين أُأًكِّدُ لك أن الربيع العربي لم يتناول إلا موضوعات تعني بشأن الأمة، ولا تحمل أي تعبير عن رغبة فردية، بل هي موجة تحمل الهموم الجماعية، وتسعى لكسر قيود فاقت في ثقلها، وطول أمدها، وعمق جروحها، أثار تلك الجروج التي خلفها الاستعمار. ففي عهد الانتداب كان لهذه الأمة حق المطالبة برحيل الاستعمار، لكنها حرمت حق المطالبة بالتغيير والإصلاح، ومعالجة التكلس والفساد بعد الاستقلال. وهذا امر عجيب وغريب ولا يتوافق مع القانون ولا يتسق مع المنطق.
في عام 1918 دعمت الولايات المتحدة مطالب العرب في مؤتمر باريس، ونقلت لجنة "كنج-كرين" للرئيس ويلسون رغبة أهل الشام في انتداب أمريكي وليس بريطاني أو فرنسي. كان حظ العرب عاثرا، فلم تكن أمريكا آنئذ دولة عظمى بعد. ورغم أن أمريكا على لسان الرئيس ويلسون أعلنت عدم شرعية الاتفاقات السرية في إعلان النقاط الأربعة عشر، إلا أن بريطانيا وفرنسا قد واصلتا علنا ما اتفقتا عليه سراً: في فلسطين وفي بقية العالم العربي. وفرضتا، بريطانيا وفرنسا، ما تريدان على الشرق العربي. خرجت بريطانيا وفرنسا، بعد ما يقاب ربع قرن من الهيمنة، فوقع الشرق في براثن "حكم وطني" يقبع الحاكم خلاله في كرسي الحكم ربع قرن، أو ثلاثون، أو أربعون عاما وأكثر، ولا تخفى تلك النماذج على سموكم. فالربيع العربي لم تغرسه الشعوب العربية إلا كخطوة لاجتثاث آثار الاستعمار التي ألمت بالأمة بعد رحيل الاستعمار، فآلمتها أكثر من الاستعمار ذاته: "قيادات وطنية" قتلت، وفَرَّطَت، وحَرَمَت، وكبتت، وأذلَّت، وفرضت تخلفا لم يحلم به الاستعمار، وكي أكون منصفا لم يسع إليه الاستعمار بهذه الدرجة من الوحشية وطول الأمد.
ثم تطرقت سموك للميثاق الوطني، الذي قارب على انتهاء مدته، فبعد ما يقارب ربع قرن على وضع الميثاق، آن أن تُدرس الأمور من جديد، ويضاف ما يستجد إلى الميثاق. لكن أن يبق الميثاق ميتا دون حراك، وحين الحراك يجري التلويح بالميثاق، فلا أعتقد أن ذلك أفضل الطرق لمعالجة حاجات ملحة تنخر ليل نهار عظام الأباء والأمهات وهم يرون أن فلذات أكبادهم "تنعم صامتة" بالحرمان، وعدم المساواة، وغياب الفرص التي تذهب كلها إلى فئة تعرف "دهاليز" الاستئثار، والتمصلح، والكيدية، والنفاق، والوصولية، والمتاجرة بكل شعار شريف تحت العلم الذي نفديه، ومُنِعْنا من نقدهم أو التصدي لهم أمدا طويلا. ل
ا أقصد في الأردن فقط، بل في مشرق عربي حكمه قذافي، وزين عابدين، ومبارك، وصالح، وأسد، ونسخا كثيرة عنهم لم تكنس بعد. شعرت بالقشعريرة، والله، لأنني أعرف بالممارسة ما تعنيه عبارتك "أننا في أمس الحاجة لتوفير الأمن الغذائي، وضبط الأسعار، ومقاومة الفقر"، ثم كللت تلك القائمة بالحاجة إلى "الحاكمية الرشيدة".
لقد تحدثت سموك عن الفقر، وجيوب الفقر في الثمانينات، والتسعينات وكنت وليا للعهد، ولم يسمعك من كان يقوم بتنفيذ السياسات، فبقي الفقر واتسعت جيوبه حتى فرخت اليوم "ربيعا عربيا" سيمزق تلك الجيوب، وسيفرض الحاكمية الرشيدة التي تفضلت بذكرها. وسيكون بمقدور أعشاب الربيع العربي (Grassroots of the Arab Spring)، أي المواطنين العاديين أن ينتقدوا كل مسؤول؛ فالمسؤول في الأنظمة الديمقراطية لا حصانة له إلا إنجازاته ومدى استجابته للمساءلة أمام ممثلي الأمة، أما في الأنظمة القمعية فهو محصن بالفساد، والمحسوبيات، والمقربين وذوي الحظوة، والأجهزة الأمنية.
ثم اقترحت سموك أن ينتقل أو يتحول الربيع العربي إلى خطط عشرية وهي دعوة في موعدها، لكن لا أحد يدري لماذا لم يبدأ القائمون على الأمر الخطط العشرية قبل عقود، كانت الفرص متاحة للشروع بخطط إنمائية (خمسية أو عشرية)، لماذا تجاهلت الأنظمة العربية حاجات مجتمعاتها، وحين شرعت المجتمعات في ربيع عربي، يطالبها المسؤولون بالتحول إلى خطط عشرية لا ضمانة لنجاحها في ظل مستبدين، أو يطالبون بالانتظار لتعديل دستور ما في هذا الجزء من العالم العربي أو ذاك كما هو الحال في سورية اليوم. حكاما تقطر أيديهم دما، وتفننت أنظمتهم في كبت الأمة، وقمعها بجيوش كان يرجى منها أن تحمي تلك الشعوب، وليس سجنها في سور مزيف من دعاوى الحفاظ على الوطن، علما أن الوطن مستباح في عهودهم، أنظمة تدعوالمواطنين إلى الغيرة على الوطن، وهي تمارس "الرذيلة" تحت عباءة "الممانعة" ومقاومة مؤامرات الاستعمار!
وتعلم سموك، ويعلم المواطنون العرب جميعا أنه لم يبق من مؤامرات الاستعمار إلا أولئك "الحاكمين". ثم تكرمت سموك ووضعت شاهدك على ضرورة "نبذ الصراع الطائفي والقبلي والعرقي وكل أشكال التعصب". ما أروع ذلك، وما أحوجنا إليه. لكن ذلك كان يجري بمباركة بعض رؤساء الوزارات في الأردن، اتخذوا بطانة تتمسح بنقاء الأردن، فنشرت الخوف بين مكونات عرقية وقومية كانت تمثل الأغلبية منذ قيام الوحدة في إطار المملكة الأردنية الهاشمية، مكونات متواجدة بقوة في بقية الدول العربية، محرومة أيضا لكن تحت مسوغات أخرى.
استبيحت الأغلبية أمام ما استُحدث لتحقيرها وإدانتها وما عرف ب"دائرة المتابعة والتفتيش". كل تلك العنصرية تجري تحت ذريعة المحافظة على الحقوق الفلسطينية: سُحبت الجوازات، وصودرت الأرقام "الوطنية"، وفُرِض الحرمان في ظل دعوى الحرص على الحقوق، ومورس العزل بدعوى الحفاظ على الهوية، ونصبت ال"غيتوهات"، أو المخيمات، بدعوى إفشال مخططات الصهيونية.
فهل الصهيونية تريد أكثر من تكبيل صاحب الحق، وتجهيله، وإفقاره، وحرمانه، وإذلاله بلسان الأخ، وزند الأخ أيضا؟ وسموك خير من يعرف أن كل إسرائيلي لديه على الأقل جوازان غير الجواز الإسرائيلي دون أن يتعرض لتهمة "تدني الحرص على مصلحة المخطط الصهيوني". لكن الفلسطيني يحرم حتى من جواز قام هو ببناء الكيان الذي يمنح ذاك الجواز. فهل في الوثائق المؤقتة المصرية، أو الأردنية، أو السورية، أو اللبنانية، أو العراقية التي تمنح للفسطينيين ما يسهل حياتهم؟ لا، إن تلك الوثائق لها غرض واحد: التمييز ضد الفلسطيني ونبذه، وعرقلة حركته، رغم رغبة الشعوب العربية في تصرف غير ذلك. ويبقى السؤال قائما: هل للأنظمة العربية غرض معين في فرض تلك الوثائق المُعَطِلًة؟ نعم. هناك غرض لا أخال سموك يجهله بحكم ألمعيتك وخبرتك. واسمح لي أن أقترب أكثر من جدار الحقيقة كي أذكر ان العنصرية بلغت في الأردن مبلغا نادى خلاله بعض قصار النظر، المحروسين بصولجان المنتفعين، طالبوا بضرورة طرد الفلسطينيين على أن "ياخذوا ملوخياتهم معهم"! فهل الفلسطيني الذي يحمل جوازا بريطانيا، أو كنديا، أو ألمانيا أو أمريكيا، أو استراليا، أو فرنسيا، أقل حرصا على الحقوق الفلسطينية ممن يحملون جوازات عربية أو وثائق عربية مؤقتة؟ هل تكبيل اللاجئ في خيمة الفقر والمرض والجهل في مخيمات البقعة و"صلاح الدين"، وشنلر، ومادبا، وأرى لزاما عليْ أن أذكر مخيم غزة أيضا، رغم بشاعة النموذج يا سيدي، هل في ذلك إلحاق أذىً بالصهيونية؟ هل الجائع، الضعيف، المطوق بالحرمان أقدر على المطالبة بالحقوق، أم القوى، المتعلم، المسلح بالمعرفة، والمحصن بالمساواة بأخيه العربي؟ إن كان صاحب القرار، أو أُلي الأمر صادقين في دعواهم للوحدة العربية والمساواة، فإنهم سيغيرون واقعا ثبت خطله القاتل قبل أي يصلهم طوفان الربيع العربي.
عوداً إلى دعوة سموكم الصريحة التي تُذَكِّرُ بحقيقة "أن الكفاءات العربية مطلوبة أينما وجدت". أنا اقول: آمين، هذا صحيح. لكن أيضا أود أن أشير إلى أن تلك الكفاءات مطلوبة في كل بقاع العالم، إلا في عقر دارها، فإنها ليست مطلوبة. فهؤلاء المبدعون في الغرب هم في الأصل محرومو الشرق العربي. فكل مهاجر نجح بعد أن ترك بلاده، لماذا؟ هل قدمت له المهاجر رأسمال؟ كلا، لقد خلق هو بجهده رأس المال، ووظفه، ودفع ضريبته. لكن المهاجر وفرت له ما كان ينقصه في بلاده: الحرية، والمساواة، والعدالة.
كان حظي طيبا أن جلست قبل ما يقرب من عامين أمام أحد الكراجات مع عربيا هاجر للولايات المتحدة، جلسنا ننتظر تصليح سيارتينا، وبعد ذلك توجهنا إلى مقهى لتناول القهوة سويا. تحدثنا عن تمثال الحرية. ذكر لي أنه مكتوب على قاعدة التمثال ما يلي (قاله سردا بحفظ عن ظهر قلب باللغة الإنجليزية): "أعطوني المتعبين عندكم، أعطوني فقراؤكم، أعطوني الحشود التواقة للحرية عندكم، أعطوني المرفوضين على شواطئكم، أرسلوا لي هؤلاء المشردين ومن لا مأوى لهم، أنا تركت لهم منارتي مشتعلة بجوار البوابة الذهبية" انفجر محدثي باكيا! صعقت رغم أن الحديث جميلا بكى. سألته لماذا؟ فقال لي: "أنا كنت متعبا، أنا كنت معدما، أنا كنت من تلك الحشود التواقة للحرية، أنا كنت من المرفوضين على شواطئ الدول القاسية، أنا كنت ممن لا مأوى لهم. أنا الآن ممن أنقذهم الحظ أن قادهم إلى ضوء المنارة القائمة بجوار البوابة الذهبية". وأضاف: "أنظر إلى الشارع الذي نجلس على رصيفه أنا وأنت، ستراني قبل أن أبلغ البوابة الذهبية، ستراني في كل الشباب والشابات الذين يمرون أمامنا". نظرت إلى الشارع فرأيت المعدمين المتعبين المتعلمين المحرومين الذين يجوسون ظلاما قاتما بلا أمل. ونظرت إلى جليسي وسألته: ماذا أعطتك أمريكا؟ فقال لي "الحرية"، و"المساواة"، و"العدالة أمام القانون".
سيدي أبا راشد، أنا ما زلت عاجزا عن معرفة سبب غياب المساواة والحرية والعدالة في العالم العربي! لماذا نحرم منها، فنضطر إلى أخذها بربيع عربي؟ واستميحكم عذرا في الإجابة على تساؤلكم المشروع الموجه للحكام العرب جميعا، والذي تقول فيه: "لماذا لا نبادر من الداخل بدل أن ياتي التغيير من الخارج"؟ هذا بالتمام والكمال كان سؤالي للمؤتمرين في مكتبة الاسكندرية عام (2004)، في المؤتمر البائس الذي افتتحه حسني مبارك لمناقشة ضرورة الإصلاح. حيث رفض المشاركون الإصلاح، وهم ممن وُصفوا بالمثقفين، بحجة أن الدعوة له جاءت من الخارج، وتحديدا من الرئيس جورج بوش.
فشل المؤتمرون في الدعوة للشروع في الإصلاح من الداخل، بعد تفشي عفونة التكلس، والتخلف، والظلم، والفساد، والحرمان، وغياب العدالة، وانعدام تكافؤ الفرص. كان معظم المشاركون ممن تغلب عليهم أيديولوجيا الحرب الباردة، ومنطق الانقسام بين التقدمية والرجعية. كانوا جميعا يمثلون أنظمة تهاب الإصلاح، فرفضوا الإصلاح وانصرفوا. إنني أبشر سيدي ابا راشد أن الربيع العربي سيزيل كل معطلات الإصلاح في عالمنا العربي، "ويومئذ يفرح المؤمنون" بالإصلاح. أحييكم قبل المغادرة مودعاً بتحية محبةٍ ووفاء،
andrew.jamali@yahoo.com