جبل نبو والخرافة الخطرة

جبل نبو والخرافة الخطرة

29-03-2012 11:04 AM

وقال لي كموش:

"اذهب وخذ نبو من اسرائيل, وذهبت في نفس تلك الليلة واشتبكت بالمدينة من وقت تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود, حتى الظهر, وافتتحتها... ضحيتها لعشتركموش...كما أنني أخذت من هنالك مواقد يهوه وسحبتها جميعاً حتى وضعتها بين يدي كموش.. وبادت اسرائيل بادت الى الابد."

(مسلة ميشع)



جبل نبو. كان الشرارة الاولى التي جعلتني اتفرغ منذ عام 1980 للبحث والتوثيق والترحل في البيئة الاردنية من اقصاها الى اقصاها , لاخرج بعد اربع سنوات بكتابي: "محاولة لاكتشاف الوطن". لماذا استفزني هذا الجبل? لانني اول ما سمعت عنه من زوجة سفير اجنبي, انه مكان قبر موسى. مقولة لم يقدني البحث عنها الا الى كونها خرافة لا سند علمي لها, ومنذها وانا اقاتل , حتى المعنيين بالسياحة والاثار للتخلي عنها , حتى ولو كان بعضهم يبرر بان ذلك يشكل مادة للتسويق السياحي.

غير اننا لم نلبث ان وجدنا عوض ذلك عصا حديدية قميئة ترتفع في المكان لتثبت الخرافة. وكانهم لم يقرؤوا ماذا فعل الاسرائيليون في قبر ابو حصيرة في مصر. فابو حصيرة, مجرد حاج مغربي يهودي يقال انه مات ودفن في مكان ما في مصر, ومنذ سنوات ونحن نشهد كل سنة معركة بين الاسرائيليين القادمين الى هذا القبر المزعوم والمصريين, فماذا اذا لو كان ابو حصيرة موسى بكله?

والاهم: على ما بنيت الخرافة التي تحولت الى تابوه لا يجوز المس به? واين ذكرت نبو ?

اولا "نبا" أو "نبو"هو اسم إله التجارة عند البابليين, وصياغة لفظة آرامية سريانية, تلفظ بتسكين الحرف الأول, وترقيق الثالث, وتعني السياج- الحاجز- الحد- الصومعة- الدير ووكر الطائر (الاب مخلوف). كانت المدينة نبطية بدليل ان الهيكل الاول في طبقات الهياكل الثلاث هو هيكل نبطي, ثم مؤابية, احتلها اليهود كما يقول سفر التثنية وكما تقول مسلة ميشع لكن ميشع ملك مؤاب لم يلبث ان حررها بعد فترة قصيرة, وثبت تاريخ هذا الاحتلال القصير (عهد ملك واحد) وقصة وتاريخ انتصاره وتحريره واسماء المدن المحررة في مملكة مؤاب, على مسلته المشهورة المنفية الى متحف اللوفر في باريس والتي نجد نسخا منها في المتاحف الاردنية.

اما قصة القبر المزعوم فلا سند لها الا يوميات سائحة اسبانية جاءت البلاد حاجة عام 394 م, حيث كتبت تقول : "في هذا المكان شيدت كنيسة تحت جبل غير جبل نبو. ويعيش هناك رهبان قديسون يجيدون استقبال الضيف ". ثم تضيف انها مقام مرتفع قليلاً عن سطح الارض (ظننته) قبراً, ومن الارجح أنه أقيم لذكرى موسى النبي.

امرأة متدينة, حاجة, متأثرة بكل ما قرأته وسمعته من قصص العهد القديم. تمر بموقع, "فتظن", "وترجح ", ومن ثم نبني, على مذكراتها هذه, حقائق التاريخ. هذا اذا تجردنا من شك مزدوج: جانبه الأول, الغايات الثقافية والسياسية التي كثيراً ما غلفت بالحج والدين من قبل الأوروبيين واليهود. وجانبه الثاني أن تكون هذه المرأة موجودة فعلاً هي ومذكراتها هذه.

ولم يتوافر اي دليل ثان على ذلك الادعاء الا بعد قرن من الزمن, على يد سائح آخر, وفي مذكرات أكثر تشويشاً وغموضاً, حيث يقول: "في طريقنا من تل الرامه إلى مأدبا, عرجنا عند منتصف الطريق إلى الجبل المقدس, جبل موسى".

موقع ذو دلالات بابلية, آرامية, سريانية, مؤابية, موقع الانتصار الوحيد المدون على مسلة حجرية لا مجال لنكرانها, تحريرلا يروي فقط قصة معركة , بل قصة نهضة عمرانية كاملة ادت الى الانتصار في معركة... وكل ذلك نهمله في تسويقنا السياحي, وحتى في تدريسنا للتاريخ , لنكرر ببغائيا وهم حكاية حاجة غربية . رغم اننا اذا عدنا الى الثوراة نفسها, نجدها تقول عن موسى في سفر التثنيه: 33/ 34 :"ولم يعرف انسان قبره إلى اليوم".

هذا اذا كانت التوراة التي بين ايدينا هي كتاب حقيقي, واذا كانت الاساطير المحيطة بموسى حقيقية. علما بان علماء الاثار الغربيين الذين عملوا عقودا في وادي الاردن لتثبيت مقولات التوراة, ووجدوا ان الارض لم تعطهم الا دلائل معاكسة, انتهوا الى القول بانها كتاب دين وليست كتاب اثار, ولا يجب الاعتماد عليها. بينما لم يستطع احد ان يناقش في صحة المكتوب على المسلات الحجرية

ويبقى السؤال: لم حشر هذا الوهم المصطنع على قمة هي من الأكثر استراتيجية وجمالاً وثراء تاريخياً في بلادنا?...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد