مذ أطل علينا الانفراج السياسي قبل ما يزيد عن عام ونصف واشتعال الشارع الاردني بنشاطات وحراكات مجتمعية سياسية المضمون متعددة الاطياف والمنطلقات والاهداف ,كان من الملاحظ ان النشاط المجتمعي هذا كان في مجمله عفوي وموضوعي غير مخطط له من اية قوى خارجية لكنه بالطبع كان امتداد للحراكات الشعبية التي اجتاحت وطننا العربي من أقصاه الى أقصاه حيث ان أقطارنا العربية كانت ولا زالت ترزح تحت ما كان يسمى بالنظام العربي, هذه التسمية التي لم يكن لها في كل القواميبس الساسية أي تفسير أو معنى سوى أن النظم العربية في مجملها كانت متوافقة على آلية الحكم المطلق سواء كان ذلك عن طريق الحاكم الواحد الفرد او الحزب الحاكم الاوحد وكانت آليات الحكم في مجملها تتبع نفس الوسائل :
تحالف السلطة والثروه واقحام الاجهزة الامنية في كل مفاصل الدولة وسياسة تكميم الافواه في فرض الرقابة الصارمة على المقروء والمسموع والمشاهد ولجم الحريات بكل أنواعها وقد نجم عن استخدام هذة الوسائل نشوء وانشاء مؤسسات الفساد بكل أنواعها السياسية والمالية والادارية والتعليمية والاعلامية والحزبية وحتى الدينية فكانت المحصلة ان ملكت قلة بسيطة من الناس كل مقدرات الوطن والشعب واصبح التمايز الطبقي مرعبا لا يمكن احتماله وتعاظمت مظاهر الفقروالبطالة والاستبداد وتوالد الظلم بشكل مضطرد , وفوق كل هذا فقد حمل النظام العربي معة قيود التبعية للاجنبي والخضوع المطلق لاملاآت اسرائيل وكل اعداء الامة في الغرب والشرق وفقدت الامة سيادتها على ارضها وثرواتها ومياهها وأجوائها وخبزها وفقدت حتى اسمها فالوطن العربي بقدرة قادر ولكي ننال رضى اسرائيل وعطفها اصبح يسمى (الشرق الاوسط وشمال افريقيا ).
في خضم هذا الواقع الذي تعيشه امتنا , المشحون بالالم والغضب والشعور اللا متناهي بالظلم المطبق على الانفاس الممزق للشعور الحاجب للامل تفجر الغضب العربي وخرج المارد العربي من قمقمه الذي حشر فيه عقود من الزمن وا نطلقت شرارة الانتفاضة العربية الكبرى من تونس وسرعان ما انتشرت في كل اصقاع وطننا العربي من محيطه الى خليجه.
وكان اردننا أحد الساحات القطرية التي طرقت بابها قبضة الحراك الشعبي السلمي المنادي بالحرية والعدالة الاجتماعية والاصلاح ومحاربة الفساد .وقد حمل لواء هذا الحراك الشعبي كل القوى الحية صاحبة الرؤى الوطنية المنضوية تحت عباءة ما يسمى حسب القاموس السياسي بالمعارضة وفي المقابل وقفت قوى الشد العكسي موحدة من حيث الهدف ومن حيث اسلوب الممارسه تحت عباءة الموالاه حسب ما هو متوقع , وحيث ان كلا الطرفين المعارضة والموالاة كانا ولا زالا متفقين على القبول برأس الدولة ملك البلاد ومؤسسة العرش قاسما مشتركا لا بديل عنه في قيادة البلاد فقد كانت مساحة الحراك السياسي ولا زالت منحصرة في مجالين هما اصلاح ووضع القوانين الناظمة للحياة السياسية (الدستور وقوانين الانتخاب والاحزاب والاشراف على الانتخابات والمحكمة الدستورية) واخرى القوانين الفاعلة في مجال تحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية وكبح جماح الرأسمالية المتوحشة والحد ما أمكن البطالة والفقر وانهاء السطو على المال العام ومقدرات الوطن (من اين لك هذا ومكافحة الفساد وهيكلة القطاع العام وغيرها).
وقد شهدت الساحة الاردنية وعلى مدى ما يقارب العام والنصف الكثير من التجاذبات السياسية على صعيد الحراك المجتمعي مابين المعارضة والموالاة وكما الرمال المتحركة كان المشهد كثير الضبابية متغير الشخوص والمواقف والمفاهيم والادوات. فعلى صعيد الموالاة كان هناك خلط للاوراق شديد فالموالاة موالاة لمن ؟ هل هي موالاة للملك؟ فالملك اعلن بشكل غير قابل للتأويل انة داعية من اجل الاصلاح ومحاربة الفساد بينما وعلى ارض الواقع فان الموالاة لم تقف مع الملك في الدعوة للاصلاح ومحاربة الفساد بل وقفت ضد القوى والفعاليات التي تطالب بالاصلاح ومحاربة الفساد بل اتخذت لنفسها منهجا معاديا للملك ودعاة الاصلاح وأصبحت يوما بعد يوم تقف في خندق قوى الشد العكسي وأرباب الفساد وانتشرت كثير المهرجانات التي ظاهرها الولاء والانتماء للملك والوطن وباطنها خدمة للفاسدين والمفسدين ولا ندري هل كان ذلك بدافع من العفوية وسوء التدبير لدى منظمي هذة المهرجانات أم انها استغلال مقصود لطيبة المواطن الاردني وحبه لوطنه وشعبه. ورأينا وبكل وضوح كيف انقسمت الموالاة على نفسها الى قسمين لا ثالث لهما , واحد يمثل الولاء الحقيقي للوطن ورأس الدوله المنادي بالاصلاح ومحاربة الفساد ,وآخر يمثل الولاء المزيف يدافع ليل نهار وبكل الوسائل المتاحة عن رموز الفساد ومراكز القوى التي تحركهم من وراء ستار بعيدا عن أعين الغالبية العظمى من الناس متمترسة خلف الكواليس.
أما على صعيد المعارضة فقد كانت المواقف في بداية الحراك موحدة في المنطلقات والاهداف والدعوة بشكل لا لبس فيه الى الاصلاح ومحاربة الفساد والانتقال سلميا وبالتوافق نحو مجتمع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتعددية وتداول السلطة المستمدة من الشعب( مصدر السلطات) ومحاربة الاستبداد واحتكار القرار الوطني والغاء الآخر. في البداية كانت الصورة واضحة في مجملها ونتائج الضغط الناجم عن الحراك الشعبي تؤتي اكلها يوما بعد يوم ولكن وبشكل مفاجىء وما ان وصلت رياح التغيير مضارب الحكم في سوريا حتى انقسمت المعارضة على نفسها وما عاد بوسع البعض ان يكون منسجما مع نفسه برفع شعارات مقبولة في عمان مرفوضة في دمشق ,ما عاد البعض قادر على الدعوة للديموقراطية والتعددية وتداول السلطة هنا في الاردن بينما هو يرفضها فكرا ومنهجا في سوريا, وأصبحت الانتفاضة العربية الكبرى في منظور البعض مباركة في تونس ومصر واليمن والبحرين والمغرب والاردن وملعونة في سوريا وأنها اي الانتفاضه مخطط صهيوني امريكي اسمه مشروع الشرق الاوسط الجديد وكأن هؤلاء العروبيون الذين يتغنون ليل نهار بالامة العربية ووحدتها وحريتها ,كأنهم يستكثرون على الامة قدرتها على النهوض ومواجهة الرصاص الحي بصدور عارية وقلوب تفيض بعشق الحرية والانعتاق نفوس تموت ولا ترضى المذلة وكأن البوعزيزي كان عميلا للموساد الاسرائيلي؟؟؟
وكان ان وصلنا الآن الى وضع مالت فيه موازين القوى لصالح مراكز الشد العكسي ,مراكز المال والاعمال والمواقع القيادية ألآخذة بزمام الحكم والتحكم في كل مناحي الحياة في البلاد,وهكذا أغلقت ملفات الفساد الواحد تلو الآخر ويجري قيد سلب مقدرات البلد وبيعها بالثمن البخس وقيد افساد الادارات الحكومية ومسخ المنهجيات التربوية والمسلكية وقيد تشويه منظومة القيم المجتمعية وشيطنة الحياة السياسية,يجري قيد كل هذه الجرائم البشعة بحق مجهول تحت سمع وبصر الناس, كل الناس الذين يصبحون ويمسون كل يوم على مزيد من الكذب والاوهام والسراب, الناس الذين شبعوا حتى التخمة من الكلام المنمق المعسول والوعود البراقة بغد مشرق تسودة مبادىء الكفاية والعدل وكرامة الوطن وشرف المواطنة في بلد محترم تسودة مبادىء العدالة والمساواة ,مالت الموازين لصالح منظومة الفساد ,واستفاقت مراكز القوى من صدمة رياح التغيير وأعادت حساباتها واستعادت اساليبها المعهودة في دغدغة العواطف الوطنيه واثارة النخوات العشائرية باسم الدفاع عن وجود البلد من الاجندات الخارجية والمخططات المشبوهه وعادت مراكز القوى هذة لتفرض علينا منهجياتها القديمة البالية بل زادت وتريدنا ان نصدق ان الاصلاح يمكن انجازة على ايدي الفاسدين وبنفس الوسائل الفاسده القديمه.