عرفان في زمن العقوق!

عرفان في زمن العقوق!

12-06-2012 02:00 AM

بالأمس تلقيت دعوة من الاخوة الجزائرين لمشاركتهم في الذكرى الخمسين لانتصار ثورتهم التي كانت الاطول والاغلى ثمنا في القرن العشرين، وما فاجأني ليس الدعوة بحد ذاتها بل المشاركة مع عدد من المثقفين الافارقة والاوروبين، اضافة الى الجزائريين في حوار حول دور د. فرانز فانون في تلك الثورة. فالرجل مفكر وطبيب من المارتينيك كرس حياته كلها -حتى عندما أصيب بمرضى عضال- لحركات التحرر في القارة التي حولها الغرب الكولونيالي الى منجم وسوق ورهينة.

أول ما أحسست به هو العرفان لهذا المثقف الثوري الذي دفن في تراب الجزائر، فالزمن قبل نصف قرن كان غير هذا الزمن.. والعولمة كانت حرة ونضالية، بحيث يقاوم ابن امريكا اللاتينية في غير مسقط رأسه وثقافته، ويستشهد القسام في جنين قادما من الشام، مثلما فعل الكواكبي وطلائع النهضويين العرب، عندما هاجروا من الشام الى مصر ليقاوموا، وقد وجدوا في البلد الذي هاجروا اليه رغما عنهم او بارادتهم احيانا، المجال الحيوي بل الرافعة الوطنية لكفاحهم.

كانت العولمة قبل نصف قرن تعني عبور الحدود والتضاريس طولا وعرضا من اجل اهداف انسانية كبرى، وكانت الولايات المتحدة القوة الخارجة للتو من الحرب العالمية الثانية لتبشر بنهاية الاستعمار، وتزهو على اوروبا بأنها ساهمت في تحررها من السطو النازي لكن الدنيا تغيرت وسبحان مغير الاحوال، فمن بشروا بنهاية الاستعمار اخترعوا استعمارا جديدا أنكى، رغم انه ذو أقنعة والعولمة في طبعتها الجديدة هي المرادف السياسي الدقيق للأمركة، وفق ما قاله روزفلت ذات يوم وهو قدر امريكا ان تؤمرك هذا الكوكب.

العولمة الجديدة تسعى إلى القطعنة والتدجين، ونزع الدسم من الإنسان، بحيث لا يبقى منه غير الغرائز، ومن ثمَّ يصبح قدره الحياة الضرورة لا الحياة الحرية. وما اثار مشاعري من هذا العرفان لمثقف افريقي هو ان هناك من يحذفون كل من ليس منهم، وبدافع من الشوفينية يتنكرون لأصحاب الفضل من الغرباء.

قبل عقدين جاء حفيد عبدالرحمن الكواكبي الى القاهرة كي يبحث عن قبر جده الذي مات مسموما في أحد المقاهي بشارع عماد الدين، لكنه لم يجده، وقد يكون رميم الكواكبي هاجعا تحت الاسمنت والحديد لإحدى العمارات.

ذلك ليس عقوقا من مصر، بل من حكام حرموا حتى شعوبهم من كل الحقوق. ومثلما جاء فرانز فانون من المارتينك وباريس الى الجزائر كان الامير عبدالقادر قد هاجر من بلاده الى الشام فالهوية كانت أعمق وأوسع مما هي الان لدى احفاد سايكس بيكو من العرب المستعربين.

وفرانز فانون لمن لا يعرفه قدمه سارتر وأبرز مثقفي فرنسا الى العالم باعتباره مثقفا كونيا، افتضح الجلد الابيض والاقنعة من كل الالوان.

فهل سيحتفل العرب ذات يوم بذكرى راشيل كوري والفتى الايطالي الذي فضل التاريخ على الجغرافيا كي لا يصبح العقوق تقليدا؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد