المقاومة بـ«الليموناضة»

mainThumb

12-07-2012 11:09 AM

 من المحزن، لا، بل والمستفز، أن يعلق بعض العرب على دخول لبنان موسوعة «غينيس» بأكبر كوب ليموناضة، منتصرا بذلك على أكبر كوب عصير توت صيني، بالسخرية والاستهزاء. هناك من رد بالقول: «خلاص، أنهينا كل مشاكلنا وقاعدين نعمل ليمون... عجبي». وثمة من طلب الهداية للشعب اللبناني. مواطن مصري نعت اللبنانيين بـ«الشعب الفاضي»، وغيره طالبهم بنجدة الشعب السوري بدل التلهي بالطبخ. وكتب آخر: «لا حول ولا قوة إلا بالله، اصنعوا يا عرب شيئا ينفع البشرية، اصنعوا شيئا يحل مشاكل المرضى والعوانس والعزاب وكبار السن والبطالة، لكن لا حياة لمن تنادي». ووصل الغضب بأحدهم حد المطالبة بإلغاء موسوعة «غينيس» من أساسها. أي أن الإخوة القراء يريدون أن تحل مشاكل البشرية جمعاء قبل أن يفكر أي عربي بأمر طريف أو ظريف. وهذه علة عربية تزداد حدة مع تصاعد الثورات، بدل أن تخفت. فالثقافة عليها أن تكون متجهمة، والسياسة مرتبطة بالدماء، ومفردات الكاتب يتوجب أن تكون مقعرة، ومقالاته مقتصرة على التهييج، والوقوف مع طرف ضد آخر، دون إعمال لعقل أو حث لفكر.

 
اللهو له فوائد لا حصر لها بحسب علماء النفس، فما بالك حين يكون في خدمة ترويج سياحي واقتصادي ينهض ببلد، كما هي حال الليموناضة التي استنفرت الغيارى.
 
يسجل للبنان على الرغم من كل معايب أهله التي تطول لائحتها، أنه يقاوم هذه الأيام ظروفا حالكة ومرعبة، بحركات مدنية وشعبية سلمية، غير معلنة، وغير منسقة، لكنها رائعة وتستحق التقدير. ما يحيط بلبنان من مجازر واضطرابات، وما يشهده من تدخلات خارجية، يجعل البلد في خطر داهم وعلى حافة حرب. ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود أدوات تخريبية وجهنمية تعمل لحساب كل الأطراف دون استثناء، فإن لبنان يبدو كأنه يقف منتصبا صامدا، وهو يحارب عاصفة هوجاء عارمة.
 
منذ بدء الصيف ولبنان يعاني من تقطيع طرق بالإطارات المشتعلة لمحتجين متنقلين لا تدري من يحركهم، المطالب المحقة أم الجهات المستفيدة، ومسلحين يصولون ويجولون عارضين عضلاتهم في بعض المناطق، وما إن تطفأ نار خناقة هنا حتى تشتعل حكاية شجار هناك. وما إن تترك إسرائيل مخطوفا حتى يقصف الجيش السوري منطقة حدودية، ومع ذلك يقاوم المواطنون الفظاظة والعنف الدمويين بالأغنية واللوحة والاستعراض والمسرحية والدبكة والموال، وصولا إلى تحدي الصين بكوب ليموناضة.
 
يعيش اللبنانيون حيوية كبيرة هذا الصيف، على الرغم من كل الفخاخ المناطقية الصغيرة التي تتفجر بين فينة وأخرى، ليؤكدوا لأنفسهم أولا أنهم يكرهون الحرب، ويقاومونها ويعاندونها، علهم يفلحون في منعها.
 
أمتار قليلة كانت تفصل بين السلفيين الملتحين الذين تهافتت قنوات التلفزة العربية والأجنبية على تصويرهم في طرابلس مؤخرا، أثناء اعتصامهم الشهير للإفراج عن الموقوفين الإسلاميين والشهير شادي المولوي، ومجموعة منتجعات سياحية بشواطئها ومطاعمها وآلاف الرواد الباحثين عن الاستجمام والاسترخاء في مياه المتوسط العذبة. وبينما كانت طرابلس تحترق بنيران المعارك الدموية بين جبل محسن وباب التبانة قبل ما يقارب الشهر، كان العمال يواصلون توسيع اثنين على الأقل من هذه المنتجعات، وإضافة المسابح والشاليهات للرد على الطلب المتزايد من الطرابلسيين والطرابلسيات، الذين سميت مدينتهم «قندهار لبنان» بسبب حفنة من المسلحين اختطفوا المشهد عنوة.
 
طرابلس تمردت مدنيا على سارقي السلم منها بتظاهرات قرع الطناجر، وإضاءة الشموع، وبيانات التجار الغاضبين، واحتجاج مجلسها البلدي، ولم يتوقف العمل في المنشآت السياحية الترفيهية المحيطة بها، التي افتتحت ببهجة وها هي تغص بروادها الباحثين عن الشمس والبحر هذه الأيام، ضاربين عرض الحائط بكل التوقعات السوداء التي يسمعونها.
 
من قال إن الشعب اللبناني لم يفهم درس الحرب الأهلية التي قتلت مائة ألف مواطن؟ ثمة مقاومة سلمية لكل أشكال العنف في لبنان تتجاهلها وسائل الإعلام المهووسة بأخبار الشؤم. ما يحدث اليوم مدهش، ولا بد أن يستمر ويشجع. مقابل حاجز الشيخ أحمد الأسير الذي يقطع الطريق الرئيسي إلى الجنوب، جاءه تجار المنطقة بمسيرة قبلات وورود ورجاء. وفي مواجهة قاطعي الطرقات بالإطارات المشتعلة، وزع آخرون الزهور والحلوى. وردا على الحواجز المسلحة التي أقامها أناس أرادوا التحكم بحركة العباد، رد الفائزون بدخول غينيس - وبالمناسبة هم من مدينة ساحلية صغيرة ووادعة تدعى البترون - بحواجز ليموناضة لإرواء ظمأ المارة.
 
ظن البعض أن أحدا لن يذهب إلى مهرجانات بعلبك هذا العام، والبقاع يغلي بسبب النيران المشتعلة في أراضي الجارة سوريا، لكن ما يزيد على أربعة آلاف تقاطروا منذ أيام لحضور حفلة واحدة لصابر الرباعي، وها هي جسي نورمان، مغنية الأوبرا الأشهر في العالم، آتية هي الأخرى لتصدح من القلعة التاريخية، وكأنها تحيي صمود اللبنانيين.
 
لا سبيل لمقاومة العنف والمستشرسين إلا بإقناعهم بأن في الحياة ما يستحق أن يعاش. هذا ما يحاوله مجتمع مدني لم يتعب من مناكفة الكلاشينكوف بدعوة شارل أزنافور ليغني في جونية، ومواجهة قذائف الـ«آر بي جي» بأمسية رومانسية للفرنسي جوليان كلير على مرفأ جبيل. وفي اللحظة التي ظن فيها البعض أن بيروت ستكون خاوية هذا الصيف، أتى جماعة الـ«هاي فستيفال» من بريطانيا بما لهم من سمعة عالمية بحدث أدبي جمع ما يزيد على 50 كاتبا ومثقفا جاءوا من أرجاء العالم. وكما لو أنه لا اضطراب في بيروت ولا قلق، انعقد «بيروت آرت فير» محتفيا بمعروضات تشكيلية وتصاميم وتجهيزات لما يزيد على 14 دولة في وسط العاصمة اللبنانية، وهو يعج بالفرنسيين بشكل خاص، ومحبي الفنون على اختلاف جنسياتهم.
 
في اللحظة الراهنة التي يبلغ فيها النظام السياسي اللبناني ذروة عقمه، وتنكشف فيها عورته الطائفية بفضائحية يند لها الجبين، لا يملك السياسيون غير سن سكاكينهم التحريضية لتغطية عجزهم المعيب. في هذه اللحظة الصعبة تحديدا تصبح مقاومة البشاعة بتحضير أكبر كوب ليموناضة، وبابتكارات صغيرة أخرى، ضرورة حياتية ملحة.
 
أليست جرعة من الليموناضة البترونية قادرة على ترطيب لهيب التوقعات؟
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد