كأنني أبحث عن العالمية ببحثي عنك يا غريب...
كضجيج العود بداخل الكمان تنسج حكاية بحث في صوت مغنية لا تبوح بالكلمات، فأغنيتها مجردة من حروف تتخبط على سطر المصفوفات، التي باتت في أيامنا كثيرة خالية من عاطفة ما، بل هي رغبت فقط أن تطلق أغنية واحدة ذات صوت واحد ذات ملاذ واحد، وإختارت فقط حرفين خاصة بها، كمغنيين الاوبرا الذين يبحثون عن جمهور في عالم آخر ينسجون لهم تفسيرات لأحبال أصواتهم.
كأنني أبحث عن العالمية والشهرة بمسك قلمي وفنجان قهوتي... أنت هنا ببعد آخرعن روح أمسكت بغيتار المسرح ليأتي ما خلف الغياب زائرا، فقد أخذت بعض الصور وحيدة...
كأنني أبحث عن شاشات تترجم إرتحال البحر في السفن، وأبحث بين وجوه المعجبين والمصورين ومازلت أبحث.. ومازلت أقرأ النقاشات العنيفة التي إكتفيت منها حد الهشاشة وأشبعت منها حد الثمالة.
"كـ" من ينام في الغربة أنا.. لا يقض مضجعه عدد الوجوه التي رأها ولا الحديث الذى جرى بين أولئك، أو ما هي الأسماء التي سيلتقي بها غداً، قضيته أكبر من ذلك يا غريب.. أرقه تتلخص في الغياب حين يغمض عينيه لتسافر روحه في البعيد نحو من تركهم خلفه ذات فراق، حين يفتح عينيه ويصر قلبه ألا يرى سوى وجوههم تستقر به.. حين يسمع كلماتهم في كل الأصوات من حوله ويرى ملامحهم حفرت في تلك الوجوه الغريبة حين يعي أنه محاط بهم أينما تحرك لتصبح المرايا هم.. والهواء هم.. والذاكرة هم.. ليكتشف أخيرا أنه يرتكب جرم الغياب، أتعلم يا غريب ما كانت الغربة عيبا.. هي فقط واقع ثان لبعدنا الاخر تؤدي بنا الى عسر الواقع الوجداني وإنحسار الامنيات.. وضعف الحلم، لكن يا غريب جرم الغياب أكبر العيوب وأسوأها على الإطلاق.
بحجم هذا الفراغ بين الأسطر كان تعلقي للمستقبل، وبحجم خيباتي في الغربة وإنكساراتي معها وبحجم حنيني لذاتي وبحجم صدقي مع من لا أراه، تصفع وجهي فاجعة أخرى فتصطف جيوش الذاكرة في ثنايا الروح لتوضب ما أحكمت إغلاق الزمن عليها، خبأتها لمن ولم يأتوا.
قيل لي يوما من إحدى البصّارات التي رسمت لي ثلثي البشرية برسمة في عين واحدة قالت "وحدهم عابرو السبل والمشاعر من يتركون خلفهم دوما ذاكرة ملطخة بالندم.." وذاكرتي يا غريب هي ذاكرة ملطخة بالدماء والأشلاء، أحاول إعطائي فرصة وداع أنيق بين تلك المفارقة والتناقض التي أجمعها في ذاتي كـ من يحمل قلبا رقيقا ينبض بقسوة ويحمل أنامل قوية لا تسد رمقه كـ من ينام في رحم غيمة ويستيقظ على كتف شاطئ، في نهاية المطاف يا غريب تكتشف أنك كنت في كل مرة تسامح نفسك تخسر جزءا صغيرا من قلبك، حتى تصل للمرحلة التي تجدك فيها قد بترت نصفه بصبرك الأحمق على ثلث البشرية في نصفك الآخر، فكما إعتدت أن أقول لنفسي " هو الوقت.. عداد هذا النبض، من يحيد بنا دوما فيؤدي بقراراتنا وقلوبنا للهاوية".
غائب منذ سبعة عشر عاما، واغتراب بي.. وبي فرح لا أدري كيف سأسرد الحكاية مع صوته أم حضوره! فكل ما يفرغه خلف الغياب تملؤه عباءة صلاتها، كدوما.. هي الحال، حكاية تعبر حكاية، محدثة ضجيجا هادئ كمفارقة ذات هدوء نسبي، كدوما... هي الحال، تُتُلف ما في البال يا غريب فترتق خلفك بحكاية ذات هدوء عفوي.
كنت أخرج في نزهة خلف الغياب هناك، تتعجب كيف أنه زارني ولم يعد يجدي أسف حينئذ، فما مضى يا غريبي لن يستعاد والقليل الذي تبقى لا يستحق عناء الخطوات. كلما أسبغت الوثوق بوجودك كنت تتعمد كسري كلما رأيتني في البعد الأخر، كنتَ كالنار المستعرة تحرق كل ملامحي لم يكن ذنبي أنني وجدت الوقت وحده الباقي وبوابة عالمك تناثرت أوجاعها نهرا فوق ثلث بشرية كوكبي، فأغرقت هفواتي في كل ليلة ليطغى على نور العقل.. كلما أسبغت الوثوق بك يا غريب كنت تشبعني أوهام حدّ ترنح العقل.. فحكايتي كالمطر يا غريب تتساقط لتروي حكاية أخرى وحكايتي هي الهدوء المتناثر بين قطرات المطر التي لن تسمعها أذن البشرية.. المسافة بين كل قطرة وأخرى هي حكايتي يا غريب.
بعضي يبحث عني، بعضي يبحث عن بعضه.. أضعتني وأضعت تفاصيلي فيّ، شاحب الهدوء قلبي باهت في ملامحه، حالك كضجيج الليل ومرهق نبضه.. أضاعني... أضعته، سأنزع الهدوء عنك الآن.. "مبهمة تفاصيل حياته".