أفغانستان وحلف شمال الأطلسي 19

mainThumb

12-01-2014 04:52 PM

أفغانستان وحلف شمال الأطلسي  : 19

" النموذج الآخر للإمبراطوريات المهزومة "

المجتمع الدولي عادة ما يسارع الى استنكار اي عمل تقوم به دولة ضد دولة أخرى ، ويزداد حجم الاستنكار اتساعا اذا وقع الغزو والاحتلال ، الاحتلال الصهيوني لفسلطين سنة 1948م لازال يواجه رفضا دوليا واسع النطاق ، والاحتلال الروسي لإفغانستان  سنة 1979م وجد معارضة دولية واسعة ، حيث تحركت ماكنة الاعلام سعيا وراء فضح الغزو الروسي وإجبارها على الخروج ، والاحتلال الأمريكي لفيتنام سنة 1965 ولغاية سنة 1973م  وجد معارضة دولية من قبل الاتحاد السوفيتي والصين ، ومن المجتمع الأمريكي نفسه الذي راح يضغط بقوة على إدارة بلاده للإنسحاب من فيتنام بسبب كثرة الضحايا من الجنود الأمريكيين ، سقنا هذه الأمثلة على احداث وقعت فقط في القرن العشرين ، علما بان هناك ثورات كثيرة ومواقف اخرى وجدت تعاطفا من المجتمع الدولي ، وقعت في قرون أخرى ، وتلك الأمثال ضربناها لنقول ان التاريخ الإنساني عبر عصوره المختلفة ، لاسيما في عصرنا الحديث ، بقي متعاطفا مع حق الشعوب في تحقيق حريتها وآمالها المستقبلية ، ولم يحدث في فصول التاريخ المتعاقبة توافقا دوليا في المصالح والأهداف والإستراتيجيات إلا في التحالف الدولي في احتلال أفغانستان ، وإسقاط حكومته المتمثلة بحركة "طالبان" ، هذا الاحتلال بدلا من ان يجد من يُعارضه في المجتمع الدولي ، وجدنا المجتمع الدولي يساهم بقواته في ممارسة الاحتلال ، وهو أغرب  غزو يحدث في التاريخ ، حيث اعلنت 48 دولة مشاركتها في الاحتلال ، بينما بقية الدول قدمت معونات مالية وعسكرية ولوجستية للمحتلين الغزاة ، والدول الأخرى بقيت صامتة و لا زالت صامتة حتى الآن ، ولم تجرؤ دولة في العالم على معارضة الاحتلال الامريكي لإفغانستان ، بل ان الدول الثلاث التي كانت تقيم علاقات دبلوماسية مع حكومة طالبان سارعت الى قطع تلك العلاقات خلال اقل من شهر واحد ، والدول هي المملكة العربية السعودية ، والامارات العربية المتحدة ، وباكستان ، هذا يعني ان العالم قطع علاقاته مع حركة طالبان بناء على رغبة حلف شمال الأطلسي  بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي الآن ، اي الولايات المتحدة تسعى لإعادة علاقاتها مع حركة طالبان من جديد خروجا من المأزق الخطير الذي تواجهه في أفغانستان ، ونلاحظ ان العديد من دول العالم سارعت بتأييد مسعى الولايات المتحدة في إطلاق عملية المفاوضات مع طالبان ، عالم محكوم بالقطبية الواحدة .

ومع انطلاق مرثون المفاوضات الرسمية والمباشرة بين حلف شمال الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية مع حركة طالبان بزعامة " الملا محمد عمر " ، الرجل الذي كان على قائمة الخطرين المطلوبين  من قبل الإدارة الأمريكية ، وتحديدا إدارة "جورج دبليو بوش" ، والذي دفعت الولايات المتحدة لمن يقبض عليه ويحضره حيا او ميتا (25 مليون دولار)  ، هذا الرجل هو الذي ارغم القوات الأطلسية للجلوس معه على طاولة التفاوض من أجل تقرير  مستقبل ومصير جمهورية أفغانستان الإسلامية ، علما بان حركة طالبان أعلنت عن شروطها للمفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية ، وقبلت بها على ان تكون مباشرة مع الإدارة الأمريكية لا مع عميلها في كابول "حامد كرزاي" الذي رفضت الحركة التفاوض معه جملة وتفصيلا ، بل وصفته الحركة بانه عبارة عن دمية تلعب به امريكا كيفما تشاء ، ولا يستطيع ان يتخذ قرارا منفردا في الشأن الأفغاني ، تلك الشروط جاءت على لسان رئيس اللجنة السياسية في حركة طالبان الأفغانية " آغا جان معتصم " في (3 مايو/نيسان 2009م) وهي : " اولا:إنسحاب قوات الاحتلال من أفغانستان دون شروط ، ثانيا: إطلاق سراح كافة المعتقلين الأفغان ، ثالثا : شطب حركة طالبان وقادتها من قائمة "الإرهاب" " .

تم الإتفاق بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان على فتح مكتب للحركة في العاصمة القطرية "الدوحة" ، حيث رحبت حركة طالبان بهذه الخطوة من الجانب الأمريكي ، وأعتبرتها إقرارا بإنجازاتهم الميدانية على الأرض الأفغانية ، لكن الحركة تعهدت في نفس الوقت على مواصلة القتال حتى إنسحاب كامل للقوات الأمركية من أفغانستان ، بينما شددت واشنطن على ان المكتب يجب ألا يُعامل بصفة سفارة لطالبان ، وفي حديث لوكالة "فارنس بريس" في (21 يونيو/حزيران 2013)(القدس العربي) قال أحد مقاتلي حركة طالبان في منطقة "زيراي بولاية قندهار" ،وهو "مولى إحسان الله" :" أننا نرحب بفتح المكتب في قطر ونحن مسرورون بذلك" ، وأضاف أنه مع اقامة المكتب نريد ان نقوم بمحادثات مع الأسرة الدولية ، كأي حكومة مستقلة وذات سيادة ، مضيفا :"بأننا نحقق أهدافنا في هزيمة الولايات المتحدة ، والآن نريد تحرير بلادنا وشعبنا من الاحتلال ، نريد أن نبني بلادنا أفغانستان" ، وقد أعلنت حركة طالبان عن افتتاح المكتب في الدوحة تحت تسمية " إمارة أفغانستان الإسلامية " وهو الإسم الذي كانت الحركة تطلقه على أفغانستان في ظل حكمها منذ سنة 1996 ولغاية سنة 2001م ، في ذات السياق ، اعتبر مراسلين أحد مقاتلي حركة طالبان في منطقة "غازي أباد" في ولاية " كونار" لوكالة "فرانس بريس" :" لقد حاربنا بضراوة من أجل إنقاذ بلادنا من المحتلين ، وعندما لا تتم تلبية مطالبنا ، فلن نجلس الى طاولة المفاوضات " ، بينما يرى قائد أفغاني آخر :" أن اي مبادرات  من أجل السلام لن توقف العمليات التي تقوم بها حركة طالبان ، مثل الكمائن والعمليات الانتحارية وغيرها من التفجيرات " ، وهو ما يشير بكل وضوح الى بداية قبول الإدارة الأمريكية للدخول في مفاوضات مباشرة مع حركة طالبان ، والاعتراف بها كحركة قائدة لمشروع التحرر الأفغاني من الاحتلال الأطلسي .

هذه التحركات من جانب الولايات المتحدة وحركة طالبان الأفغانية ، ألقت بظلال الخوف والشك على الحكومة الأفغانية التي يقودها الرئيس "حامد كرزاي"، وباتت الحكومة الأفغانية متخوفة من سحب البساط من تحت ارجلها ، وهو ما دفع بها الى مطالبة الإدارة الأمريكية بضرورة ان تشرف الحكومة الأفغانية على عملية السلام والتفاوض مع حركة طالبان ، وأنها لن تشارش في محادثات السلام المزمعة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان قبل السماح للأفغان بإدارة المفاوضات ، بينما اعتبر الرئيس الأمريكي "باراك اوباما" في (19 يونيو/حزيران 2013)(الجزيرة) ان عملية التفاوض مع حركة طالبان في قطر ستكون صعبة ، وقال في مؤتمر صحفي مشترك مع المستشارة الألمانية " أنجيلا ميركل" في برلين :" لقد قلت لكم أمس أنها ستكون عملية صعبة ، إن الطرفين يتقاتلات منذ فترة طويلة ، وحتى قبل هجمات (11 سبتمبر /ايلول 2001م) " ، بينما اعتبر الصحف الأمريكة ، وعلى رأسها "الواشنطن بوست" ، اعتبرت هذه الخطوة اختراقا لحركة طالبان ، مشيرة في نفس الوقت الى أن من الممكن أن يكون الهدف النهائي لطالبان من هذه المحادثات ، الحصول على اعتراف الدول الأجنبية واقناعها بأنها البديل الوحيد الممكن لاستقرار أفغانستان .

اثناء القصف الأمريكي على أفغانستان سنة 2001م ، طلب "الملا عمر " التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل وقف القصف على بلاده ، وتجنب وقوع خسائر بشرية في صفوف الأفغان ، الا ان طلبه ضرب في عرض الحائط ، وقوبل بالسخرية والتحقير من قبل الإدارة الأمركية في حينها ، ثم أمر  "الملا محمد عمر " رجاله في ( ديسمبر / كانون الأول 2001)(اجزيرة ) بتسليم السلاح بعد اتفاق بالاستسلام في "قندهار"  عقد مع رئيس الحكومة الأفغانية الانتقالية المعين "حامد كرزاي" ، يتمتع بموجبه "الملا محمد عمر"  بالحياة الكريمة في قندهار ، غير ان كرزاي تراجع بعد اعتراض الولايات المتحدة ، واشار الى ضرورة "محاكمة قائد طالبان" ، مصرحا لوسائل الإعلام العالمية بان:" الملا عمر فار من العدالة ، ولن يستفيد من العفو الذي أعلنه  وشمل مقاتلي طالبان " ، في المقابل  أعلن الرئيس الأمريكي " جورج د. بوش" وعقب احتفاله في(7 ديسمبر/كانون الأول 2001م)(الجزيرة) بالإنتصار على حركة طالبان وتنظيم القاعدة ، مستغلا ذكرى هزيمة "بيل هاربر" للحديث عن انتصاره في أفغانستان ، وذلك من فوق حاملة الطائرات الأمريكية "إنتربرايز بنورفولك" في فرجينيا إحياء لذكرى الهجوم الياباني عل "بير هاربر" في (7 ديسمبر/ كانون الأول 1941م) ، خاطب القوات المسلحة :" أن النظام الذي كان يسيطر على معظم أنحاء أفغانستان ، لا يسيطر اليوم سوى على بضعة كهوف" ، وأكد :" أن طريق محاربة الإرهاب ما زال طويلا ، إذ أن العمل الأكثر صعوبة وخطورة لم يبدأ بعد ، مشيرا الى وجود الكثير من الإرهابيين ما زالوا مختبئين في خنادق حصينة بأرض شديدة الوعورة" ، مضيفا:" يقال إنهم مستعدون للبقاء طويلا تحت الأرض ، ولكن ينتظرهم تغيير مفاجيء في الخطط ، لأننا سنعثر عليهم واحدا بعد الآخر ، وسنمزق شبكتهم الإرهابية إربا إربا" ، "وأن المعركة على الإرهاب ستنتهي بالنصر للولايات المتحدة وأصدقائها ، ولن تنتهي بهدنة او معاهدة ، وسخر "بوش من طالبان والقاعدة لقولهم عن الولايات المتحدة :"إنها نمر من ورق" ، مشيرا الى ان ذلك كان قبل أن يزأر النمر " ، بينما صرح  وزير الدفاع الأمريكي " دونالد رامسفلد" في ( 20نوفمبر/ تشرين الثاني 2001م)(الجزيرة) ان الولايات المتحدة ترفض التفاوض على مغادرة "الملا محمد عمر" لمدينة قندهار، وأن واشنطن ترفض مبدأ " الإستسلام المتفاوض عليه" ، وان القوات الأمريكية لن تسمح "للملا عمر" بمغادرة قندهار" ، في حين صرح المتحدث بأسم التحالف الدولي في باكستان " كنتون كيث" في ( 7 ديسمبر/كانون الأول 2001)(الجزيرة)  :"أن الحملة الجوية المستمرة منذ شهرين على أفغانستان لن تتوقف رغم استسلام طالبان ، وتسليم أسلحتها في قندهار " ، وأضاف " كيث" في مؤتمر صحفي في إسلام أباد :" إن الحملة لن تتوقف قبل ان تحقق كل أهدافها المتمثلة في القضاء على الكامل على طالبان ، وإلقاء القبض على زعيم الحركة " الملا عمر" ، وقائد تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن" ،  وقد كرست الهجمات الصاروخية ضرباتها على مدينة "قندهار " معقل زعيم حركة طالبان " الملا محمد عمر" ، من أجل التخلص منه ، فقد دمروا بيته بالكامل في المدينة ضنا منهم انه موجود هناك ، الا انه كان خارج منزلة ، لينجوا من الموت ، ويكتب ملحمة تاريخية جديدة ، ملحمة تاريخية لا يشبهها اي ملحمة أخرى ، فلنقرأ التاريخ معا ، ونستعرص صحائفة واحدة واحدة ، لن نجد "للملا عمر" مثيلا او نظيرا ، قديما كانت الحروب متشابههة ، والأسلحة متشابههة ايضا ، والقتال وجها لوجه ، والشجاعة والإستبسال في القتال ، والصبر على تحمل الآلام ، كانت كفيلة بتحقيق النصر على الخصوم والأعداء ، بينما في حالة "الملا محمد عمر" فتختلف الموازين والمعايير ، فالرجل لا يملك من القوة الا القليل القليل ، ولا يتسلح الا بسلاح "الإيمان العظيم بالله تعالى" ، وبأسلحة خفيفة جدا ، بنادق مدافع ومضادات ارضية ومجاهدون ، مقابل 48 دولة ، وحلف شمال الأطلسي "أقوى تجمع عسكري عالمي" في التاريخ ، القديم والوسيط والحديث، وأسلحة حديثة جدا تستخدم للمرة الأولى ، حيث فاقت القوات الجوية الأمريكية 500 مقاتلة حديثة  ومتطورة ، واربع مجموعات من حاملات الطائرات يدعمها اكثر من 150 سفينة حربية بينها عشر بوارج ومدمرات مسلحة بصواريخ "كرزو" و"توماهوك" ، بل وأعلن وزير الدفاع " دونالد رامسفيلد" في (10 اكتوبر / تشرين الأول 2001م)(الجزيرة) :"أن القاذفات الأمريكية من طراز"ب 52B52" العملاقة ، ألقت قنابل هائلة من نوع "جي بي يو - 28" التي تزن 2,5 طن ، وهي ذات قوة تدميرية واختراق كبيرة على اهداف تحت الأرض مما أحدث " أنفجارات أخرى هائلة استغرقت في بعض الحالات بضع ساعات" ، وهي قنابل قادرة على الإختراق بعمق 30 مترا تحت الأرض او اختراق الإسمنت المسلح بسماكة 6 أمتار، وهل تستوي قوة طالبان مع قوة حلف شمال الأطلسي ، او بمعنى أدق التحالف البشري ضد حركة طالبان ، بالتأكيد لا يستويان ، والذي سيحسم المعركة التحالف الدولي ، والذي سيسقط الآخر هو التحالف الدولي ، والذي سيجعل حركة طالبان جزءا من الماضي بدفنها في تراب أفغانستان هو حلف شمال الأطلسي بكل تأكيد ، من هنا برزت "عنجهية الولايات المتحدة وغطرستها" تجاه اي بصيص أمل لوقف القصف والاستمرار في تدمير أفغانستان ، وصولا الى القبض على الزعيم "صاحب العين الواحدة" وذبحه هو ومن معه كالخراف ، والتخلص منهم ومن "الإسلام الجهادي " الى الأبد ، وهنا ، أجدني مضطرا للعودة الى اقتباس ما قاله الكاتب والصحفي الأردني " ياسر الزعاترة " في مقاله "الملا الذي حير أمريكا وحيرنا ايضا" ، المنشور في صحيفة " الإسلام اليوم" ، 2009  :" اليوم يغدو "الملا محمد عمر " أكبر لغز يحير الأمريكيين في ظل حالة الاستنزاف التي يعيشونها في أفغانستان ، ولا يحدث ذلك الا بسبب مبدئه وربما "ثوريته" التي حيرتهم ، فقد أرسلوا اليه عشرات الرسائل المعلنة وغير المعلنة من أجل الحوار ، لكنه تجاهلها على نحو مثير ، وبينما يندلق إسلاميون في مواقع شتى على حوار الأمريكان والغربيين أملا في كسب الرضا ، فقد كان رد الرجل عليهم واضحا حاسما : إذا لم تخرجوا من بلادنا فليس بيننا وبينكم إلا السلاح، وإذا قررتم الخروج سنوفر لكم طريقا آمنا لذلك ، بسبب هذه الروحية الفريدة من الحسم  والوضوح ، معطوفة على ممارسات المحتلين وأذنابهم ، يزداد عدد مريدي الرجل ، ولذلك فهو يعتقد أن النصر صار قريبا" ، هذه التصريحات والتحليلات تثبت كم كان لنجاة القيادة العليا لحركة طالبان ، وفي مقدمتهم "الملا محمد عمر" الدور الاستراتيجي في إحباط محاولة قوات حلف شمال الأطلسي في السيطرة المطلقة على أفغانستان ، بل ونجحت تلك القيادة في إدارة المعركة طوال اكثر من عشر سنوات بحرفية قتالية عالية المستوى ، أفقدت القيادة العسكرية المركزية سيطرتها على اكثر من 85% من اراضي افغانستان للناتو في افغانستان .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد