أفغانستان وحلف شمال الأطلسي : 20

mainThumb

15-01-2014 05:05 PM

أفغانستان وحلف شمال الأطلسي  : 20

" النموذج الآخر للإمبراطوريات المهزومة "


" إن أمريكا وعدتنا بالهزيمة والله وعدنا بالنصر ، فسننتظر أي الوعدين يُنجز ، والله لن يُنجز إلا وعد الله " ، بهذه الكلمات القليلة ، واجه قائد حركة طالبان "الملا عمر" التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ، التي أصرت على القضاء على حركة طالبان ، رافضة اي وسيلة للتفاوض ، او حتى للإستسلام ، وترك الرجل يعيش حياة كريمة لبقية ايام حياته .

ينبغي علينا التوقف عند هذه الظاهرة ، ظاهرة الزعيم "الملا محمد عمر" ، الذي أثبت بثوريته وحنكته وصبره ومثابرته ، مصداق قانون المؤرخ الإنجليزي  "ارنولد توينبي" في الحضارة الإنسانية :" التحدي والإستجابة" ، وأي تحدي هذا الذي واجهه هذا المجاهد الأفغاني والذي لا يزيد عمره حينما أسس "إمارة أفغانستان الإسلامية" عن (37 عاما فقط)، ولا يزيد عمره حينما أسقطت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي حكومته سنة 2001م عن ( 42 عاما فقط) ، وهنا ، ينبغي التوقف للحظات لنقرأ بعضا يسيرا من سيرة الرجل الذي سيكون له شأنا في تغيير هوية العالم ، إنه :"الملا محمد عمر" من مواليد سنة 1959م ، في قرية " نوده" من قرى قندهار ، وينحدر من قبيلة "هوتك" أحد أفخاذ قبيلة "غلزاي" البشتونية  المعروفة ، ينحدر "الملا عمر" من أسرة فقيرة جدا، توفي والده وعمره ثلاث سنوات ، ولم يُنجب غيره ، وتزوج عمه الأكبر "المولوي محمد أنور" من أمه ، وأنجب منها ثلاثة اولاد وأربع بنات ، وتربى في حضن عمه "زوج أُمه" ، الذي درس له الكتب الإبتدائية واتقلت الأسرة الى مديرية "بيرون" في ولاية "أرزجان" ، حيث كان زوج الأم يشتغل إماما  للمسجد ، وكان عمره 19 عاما حينما غزت القوات السوفيتية أفغانستان سنة 1979م ، وكان يدرس في منطقة "سنج سار" في مديرية "ميوند" من ولاية "قندهار" ، ترك الدراسة والتحق بالمجاهدين الأفغان ، فقد أحد عينيه في أحد المعارك الدائرة ضد القوات السوفيتية ، وقد حكم أفغانستان من سنة 1996 ولغاية 2001 ، ثم قاد الجهاد الأفغاني من جديد ضد حلف شمال الأطلسي ، ولا زال مجاهدا ثائرا حتى اليوم .

من الأهمية بمكان ان نتوقف عند بعض البيانات او التصريحات لزعيم حركة طالبان "الملا محمد عمر" ، لنقرأ من خلالها أفكار الرجل واستراتيجية حركة طالبان التي يقودها في معركة فريدة من نوعها في التاريخ البشري ، هذه القيادة التي صنعتها الأحداث الصعبة المعقدة في جبال أفغانستان ، صُنعت في مرجل احتلالين عالميين لإفغانستان ، الإحتلال السوفيتي سنة 1979م وحلف "وارسو" ، والإحتلال الأمريكي سنة 2001م ، وحلف شمال الأطلسي ، الرجل لم يتلقى تعليمه في فن القيادة لا في روسيا ولا في امريكا ، بل لم يتعد نطاق حركته ربوع أفغانستان وباكستان ، وثقافته الحربية والعسكرية إنما هي وليدة جبال أفغانستان وأوديتها ، التي ينتمي اليها الرجل وحركته إنتماء قل نظيره عند القيادات التحررية في العالم .

حينما تطور الأداء القتالي لحركة طالبان ضد حلف شمال الأطلسي سنة 2008م ، أعلن زعيم الحركة "الملا محمد عمر" مطالبته قوات الاحتلال الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي بالإنسحاب من أفغانستان ، وإلا تعرضت لهزيمة مثل تلك التي لحقت بالجيش السوفيتي من قبل ، وفي رسالة نادرة له نقلتها وكالة " رويترز" (في شهر سبتمبر/ايلول 2008م)(مفكرة الإسلام) قال "الملا عمر" :" إننا نعرض صفقة على القوات الأمريكية ، ونقول :" أعيدوا النظر في قرار الاحتلال الخاطيء ، وبادروا الى خروج سالم لقواتكم ، واذا تركتم ارضنا يمكن ان نوفر لكم فرصة معقولة للرحيل ، ولتعلموا أن طالبان لا تشكل خطرا على أحد في العالم ، لكن اذا استمريتم  بالاحتلال فستلقون الهزيمة في كل بقاع العالم مثل الإتحاد السوفيتي السابق" ، وكان "الملا محمد عمر" قد أذاع بيان عبر وكالة الأنباء الأفغانية التي تصدر من باكستان ، يخاطب الأمريكيين والعالم يريد علاقات شرعية مع بلدان العالم ، ولا تمثل حركة طالبان تهديدا الى أية جهة في العالم "، "وإن أمريكا تصور طالبان كتهديد لبلدان العالم ، وبمثل هذه الدعاية تريد استغلال بلدان وحكومات العالم بحثا عن مصالحها الخاصة ، واذا تركت القوات الأجنبية أفغانستان ، فان هذا سيكون انتصارا لشعب أفغانستان، وسيكون من الأفضل للشعوب ان تسلط الضغط على حكوماتها لسحب قواتها العسكرية من أفغانستان ، واعطاء شعبنا الحق في إقامة حكومته المستقلة " .

مع ان زعيم حركة طالبان "الملا محمد عمر" مُقل في الظهور الى وسائل الإعلام ، ومقل ايضا في إصدار البيانات ، وذلك لإشرافه المباشر على العمليات القتالية ضد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ، وهذا يتطلب منه جهدا استثنائيا ، لا يتيح له المجال لفبركة الكلمات الطنانة والرنانة على عادة القيادات الضعيفة ، ومع قلة تلك البيانات الا انها تحمل رسائل ذات قيمة سياسية واستراتيجية وعسكرية بالغة الأهمية والخطورة ، ومن المفيد جدا قراءة أفكار الثائر والمجاهد الأفغاني "الملا محمد عمر" من خلال بياناته التي ظهرت مؤخرا ، وهي ثلاثة بيانات ، البيان الأول صدر بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك (1433هـ/2012م) ، يهنيء فيه المسلمون في العالم وفي أفغانستان على وجه التحديد ، والبيان الثاني صدر عشية عيد الفطر المبارك (30 رمضان 1434هـ الموافق 7 أغسطس /آب 2013م)  ، اما البيان الثالث فجاء بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك (8 ذو الحجة 1434هـ الموافق 13اكتوبر/ تشرين الأول 2013م) ، ويبدو من خلال قراءة تلك البيانات أن حركة طالبان تخطو خطوات حثيثة في كسب المعركة على  ارض أفغانستان ، فان قراءة هذه البيانات تكشف لنا عن حقائق بالغة الأهمية لا يمكن الحصول عليها من مصادر او جهات أخرى ، منها واهمها الإطلاع على الفكر الثوري والجهادي الذي تتمتع به حركة طالبان ، ومعرفة السياسات والتوجهات التي تتحرك الى تحقيقها الحركة وقيادتها المركزية ، كما كشفت البيانات حجم وهول الكارثة الإنسانية التي تعرض لها الشعب الأفغاني نتيجة الاحتلال الأطلسي ، والتي لا زال المجتمع الدولي يتنكر لها ،  ولا يقدم في سبيلها اية مساعدات إنسانية مجدية تساهم في علاج الجراح الواسعة في البلاد .

افتتح  "الملا محمد عمر" خطاباته وبياناته وتصريحاته بنصوص من القرآن الكريم ، وهي نصوص قرآنية منتقاة وذات دلالة عسكرية وسياسية وجهادية ، فمثلا ، جاء في البيان الأول الذي أشرنا اليه سابقا ، النص القرآني التالي :" وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴿المائدة 56﴾ ، وفي البيان الثاني ، وردت الآية رقم (55) من سورة النور ، وهي :" وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ  " ، اما البيان الثالث فقد وردت الآية (8) من سورة الصف ، وهي :" يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " ، كما مهر بياناته جميعها بعبارة " خادم الإسلام أمير المؤمنين الملا محمد عمر المجاهد ،  فالبيان الأول الذي حصلت "شبكة الإعلام العربية " على نسخة منه ، جاء بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك لسنة (1433هـ / 2012م) ، والبيان احتوى على سبع صفحات كاملة ، مُعبرا عن سياسة حركة طالبان ورؤاها وتطلعاتها المستقبلية ، بالإضافة الى ما حققته الحركة في الميدان ، وقد استغل "الملا عمر" مناسبة عيد الفطر السعيد للتعبير عن سياسة حركة طالبان وماذا تستعد له مستقبلا ، حيث سلط الأضواء على عشر محطات رئيسية هي خلاصة رؤى حركة طالبان وما تتطلع الى تحقيقه مستقبلا ، بالإضافة الى ان البيان كشف عن حقائق الواقع الأفغاني كما تراها حركة طالبان ، لا كما يراها حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة وحكومة أفغانستان ، واذا سبق واستعرضنا رؤى وتصورات الإدارة الأمريكية والبريطانية والأمانة العامة لحلف شمال الأطلسي ، وحتى منظمة الأمم المتحدة ، والصحافة الغربية ، الأمريكية والبريطانية والفرنسية والالمانية وغيرها ، تصورات جميع هؤلاء للواقع الأفغاني ، فعلينا ان نتوقف عند تصورات زعيم حركة طالبان "الملا محمد عمر" وحركته تجاه الاحتلال الأمريكي لبلاده ، حتى تكتمل صورة المشهد الأفغاني امامنا وامام كل باحث عن الحقيقة .

     توقف البيان عند أبرز القضايا التي تهم حركة طالبان وزعيمها "الملا محمد عمر" الا وهي مسيرة الجهاد الأفغانية ، مؤكدا على التطور النوعي في القتال ، من خلال اعتماد تنظيم متين وتكتيكات غاية في التأثير ، معتبرا اياه إنجازا سيؤدي الى تحقيق الانتصار قريبا ، عازيا كل ذلك الى الإرادة الإلهية ، وثم تكاتف ووحدة الشعب الأفغاني البطل ومساعدته للمجاهدين وتضحياته في سبيل الله ، وكذلك المساعدات التي جاءتهم من عموم المسلمين ، وقد أثنى "الملا عمر"على الشباب الأفغاني الذي تقدم في صفوف قوات الاحتلال ضمن خطط وتدابير حكيمة ، وراحوا يوجهون ضرباتهم القاصمة ضد المحتلين وأعوانهم في مراكزهم وقواعدهم العسكرية ، معتبرا إياهم من الأبطال الذي يجلهم ويقدرهم ويحترمهم الشعب الأفغاني ، ووفق ما ورد في البيان ، فان هذه الخطة جاءت وفق استراتيجية واعمال عسكرية سميت باسم " عمليات الفاروق" التي اكتسحت جميع ارجاء افغانستان ، وبفضل دقة تنظيمها انخفضت خسائر المجاهدين وزادت خسائر حلف شمال الأطلسي ، الأمر الذي أفقد العدو الأمن والطمأنينة حتى في معاقله المحصنة ، ومما اكد عليه البيان ، ان  الجنود الأمريكان باتوا يواجهون بسبب هذه الحرب أزمة اقتصادية ، حتى أن جنودهم يظهرون كرههم ومخالفتهم للسياسات الخاطئة لحكومات بلادهم ، أبرزها تلك المظاهرات المعارضة للحرب في أفغانستان  امام الجنود العائدين من أفغانستان أمام قاعة مؤتمر "شيكاغو" بأرميكا ، وقد أجبرت القوى المعارضة للحرب دول التحالف عل سحب قواتها واحدة تلو الأخرى ،، وهو ما يعبر من وجهة نظر "الملا عمر" عن انجاز كبير وانتصار للجهاد الأفغاني ، وقد كشف بيان "الملا عمر" عن وحشية المحتلين الأجانب لبلاده ، وانهم فقدوا كافة الأخلاق والقيم الحربية ، بل وداسوا على حقوق الإنسان وكرامته ، من خلال انتهاك حرمة المساجد وحرمة الشهداء ، وإشاعة الفاحشة بين الصغار والشباب ، ومداهمة البيوت في ظلام الليل ، وقتلهم النساء والشيوخ والأطفال بكل توحش وقسوة ، كما حصل من حوادث أليمة في قريتي ( زنجاوات،سجاوند ) في قندهار ولوجر ، وقصفهم البيوت ،والقرى، والأسواق ، والمساجد ، والمدارس ، والجنائز ، والأفارح ، دون أدنى رحمة، إنهم ارتكبوا كل هذه الفضائع بينما يرفعون شعارات حقوق ألإنسان ، ومع هذه الآلام التي يتحدث عنها زعيم حركة طالبان ، الا أنه أشار في بيانه الى ما يثلج صدور الأفغان والمسلمين في العالم ، حينما قال:" إن مما يثلج صدور عامة المسلمين والمجاهدين منهم خاصة ، ويبعث فيهم الفرح ، أن المجاهدين من "بدخشان" الى "هلمند" ومن "ننجرهار" الى هرات" ، يقومون بأداء فريضة الجهاد أخوة متحابين في صف مرصوص واحد وتحت راية واحدة وقيادة واحدة ، وهذا سبب انتصارهم بفضل الله تعالى ، وقد أقلقت هذه الوحدة العدو ، وجعله في حيرة من أمره" .

القضية الثانية التي توقف عندها بيان "الملا عمر" ، المؤامرات التي يحيكها الأعداء ضد حركة طالبان ، منها فشل الاحتلال في محاربة الأفغان فكريا ، ومحاولة الاحتلال من خلال حلقاته الاستخباراتية توظيف بعض شباب أفغانستان الذي اعتبرهم البيان جهلة وأوباش لإحداث قلاقل وفتن بين الشعب الأفغاني ، ساعيا الى العودة بأفغانستان الى أوضاع ما بعد سقوط الحكومة الشيوعية في التسعينات ، إلا ان هذه المؤامرة احبطت وفشلت بفضل الله تعالى من البداية ، بل وزاد من تضامن وتعاطف الشعب الأفغاني مع المجاهدين ، ونبّه البيان الى الدور التآمري الذي سعت الى تحقيقة الإدارة الأمريكية على أرض أفغانستان من خلال بث الدعايات حول نقل السلطة من المحتلين الى عملائهم الأفغان ، وهي ،وفق البيان، المسرحية الخادعة التي يوظفها العدو لإخفاء هزيمته من ناحية ، ولخداع الشعب الأفغاني والمجتمع الدولي من ناحية أخرى ، وتجيء المحطة الثالثة التي توقف عندها البيان ، والتي تعالج مشروع الشراكة الإستراتيجية بين الحكومة الأفغانية والولايات المتحدة الأمريكية ، وقد نوه البيان الى ان الشعب الأفغاني البطل يرفض لعبة بيع أفغانستان والتي تسمى بموافقة الشراكة الإستراتيجية ، حيث لا تتمتع هذه الموافقة الموقع عليها بين المحتلين وعملائهم في الإدارة الإفغانية بأي اعتبار قانوني ، وان استقلال أفغانستان ، وإقامة نظامه الشرعي ، هما من القيم التي لن تساوم عليها الإمارة الإسلامية أحدا مهما كان الثمن ، وإن الشعب الأفغاني سيواصل جهاده ضد الغزو الأجنبي الى تحرير كامل التراب الأفغاني ، سواء أكان هذا الغزو باسم قوات حفظ السلام ، او كانت تحت غطاء موافقة الشراكة الإستراتيجية .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد