استراتيجية التفكير الناقد – الى أي مدى أيها المعلمون في صفوفكم لها مفعلون !

mainThumb

31-05-2014 03:11 PM

يعد التفكير الناقد الذي هو عبارة عن عمليات عقلية تتضمن مهارات كل من التمكن التي تشمل ( المقارنة , الترتيب , التجميع , والتصنيف ) , ومهارة المعالجة التي تشمل ( تحليل الحقائق , الآراء ,  الاستنتاج  , التنبؤ , وتحديد علاقة السبب بالنتيجة ) , ومهارات التشغيل التي تشمل    ( حل المشكلات  ) , من أحد الضروريات التي يقتضيها العصر الذي نعيش فيه حيث التفجر في المعرفة والتنوع في مصادرها , والذي بدوره يساعد المعلم على انتقاء مفاهيمه وخبراته , فلا يقبل أي معرفة دون اخضاعها لهذا المعيار , وحيث يتعلم الطالب من خلاله مهارات التفكير المنطقي من استخدام للحجة والاقناع , وتدريب للعقل على أنماط التفكير المتعددة وصولا الى حل المشكلات . فهو يمثل مطلبا هاما في حياة المتعلم الدراسية , فمن خلاله يتخلص الطالب من الأنانية والشخصنة والجهوية والتفاخر بالعشيرة , ويعترف أن هناك في تاريخنا مركزيات ومحاور وأطراف , وهناك أعمار وأزمان وأجيال وآجال , وهناك مدن حضارية وأرياف زراعية وبوادي وصحاري وجبال , وهناك سواحل ودواخل , وهناك حضارات نهرية وآثار وكنوز في خارطة تاريخية متغيرة لم تكن كما نراها اليوم , وأن من حق الطالب أن يعرف  كيف يكتب , وكيف يتكلم , وكيف يعيش , وكيف يربي أولاده , فلا يكون الواحد منهم أسير الخوف من التعبير والتغيير في عالم قد تزايد الاهتمام بهذا النوع من التفكير منذ منتصف القرن الماضي , اذ بدأت تظهر الدعوات الى التربية الناقدة والتعلم الناقد , وأصبح لدى أهل التربية قناعة بضرورة تنميتها , لأنهم شعروا بأهميتها القصوى , وبأنه لا غنى عنها في حياة المعلم والمتعلم على حد سواء لجملة من الاعتبارات , منها أن تنمية مهارات التفكير الناقد عند الطلبة تؤدي الى فهم أعمق للمحتوى المعرفي الذي يتعلمونه , ذلك أن التعلم في أساسه يهدف الى تنشيط وتنمية عملية التفكير لدى الطلبة , وأن من جراء توظيفه يحول عملية اكتساب المعرفة من عملية خاملة , الى نشاط عقلي يفضي الى اتقان أفضل للمحتوى , والى ربط عناصره بعضها ببعض , مؤكدين على أن أحد الأهداف التعليمية هو تعليم الطلبة كيف يفكرون , لا كيف يحفظون دون فهم واستيعاب للمناهج المدرسية , وتعليمهم أيضا كيف يوظفون تلك المهارات التفكيرية في حياتهم اليومية . فالتفكير الناقد يعد من أحد أنماط التفكير التي يستخدمها الفرد في حياته اليومية , فهو ضروري كمقدمة لظهور صور التفكير الأخرى , كالتفكير العلمي والتفكير الابداعي , ولفحص معلومات الفرد والتمييز بين الأفكار السليمة والخاطئة لديه , وهذا أيضا ضروري لكل من التفكير العلمي بخطواته المعروفة و التفكير الابداعي , لأن الشخص المبتكر يحتاج للنظر بعين ناقدة الى أفكاره لينتقي أكثرها خصوصية , ويحسن الأفكار الأخرى ويستبعدها , فمن هذه الاستراتيجية يستطيع الطالب ان يفحص أي معتقد وأي مقترح يتبناه في ضوء الشواهد التي تؤيدها , والحقائق المتصلة بها , بدلا من القفز الى النتيجة على نحو فج ليس فيه نوع من النضوج ,  ويستطيع فهم لغتها واستخدامها في عملية اتصال دقيق , مع ادراك العلاقات المنطقية بين القضايا , ويكون لديه القدرة على تفسير البيانات , واستخلاص النتائج والتعليمات السليمة , وتقويم مدى صحة الشواهد والأدلة , والتعرف على المسلمات , وتقويم الحجج والأحكام , وتقديم أفكار وقناعات وتصورات وتحليلات هادفة .


انه لمن الضروري جدا أن يعد الطالب اليوم اعدادا جيدا لكي يستطيع التعايش مع سرعة التغيير في كل مجالات الحياة , وفي مجتمعات تعتبره من أهم مكوناتها وسماتها , وان على المهتمين بالتربية ان يساعدوه على التكيف مع هذا العالم السريع التغيير من خلال اتاحة الفرصة له للتدرب على حل المشاكل التي يواجهها بنفسه , وهذا لا يتوفر الا بخلق جيل مفكر يتميز بامتلاكه المهارات العليا التي تتلاءم مع هذا العصر الذي يعتبر عصرا للابداع والابتكار . وانه لمن المهم أيضا أن يمتلك الانسان حرية رأيه واتخاذ قراره بنفسه , النابع من قناعاته بعد البحث والتمحيص والاستدلال على صحة ما يراه , وأنه قد يمر في حياته أحداثا كثيرة , ويعرض عليه أفكارا في شتى المجالات الحياتية ابتداء من اختيار نائب في البرلمان أو قبول وظيفة , او موافقة على أمر زواج , أو صداقة ما ,أو اقتناع بعرض تلفزيوني لمنتج ما , ويريد أصحاب الشأن منه تقبله , محاولين بكل جهدهم اقناعه , فلا يجد عندها سوى استخدام مهارات التفكير التي تعلمها لكي يستطيع ذلك الانسان أن يتحقق من صحة ما يعرض عليه , وأن يتعرف على ما به من أخطاء وثغرات , وأن يكون قادرا على اتخاذ القرار في هذه الأمور بنفسه دون الاعتماد على غيره أو التأثر بما يقولون له , فبتوظيف استراتيجية التفكير الناقد يمكن الانسان الحصول على رأيه المستقل , وتجنب التبعية العمياء لآراء الآخرين من خلال التدقيق والملاحظة والتحليل , لاستخراج الأخطاء والحقائق وما وراء الأمور التي يمكن ان يواجهها , فتصل لفكرته وما يثبت صحتها , ويعرف كيف يوصلها بشكل واضح ومباشر .


ان من يتعلم التفكير الناقد سيكون قادرا على التساؤل والاستفسار الدائم لما يبدو له غامضا غير مفهوم , وقادرا على الفصل بين التفكير العاطفي والمنطقي , وعلى التفريق بين الرأي والحقيقة , والبحث عن الأسباب والأدلة , وسيكون موضوعيا عند تقييم الأفكار , فلا يتعصب لراي معين أو فكرة ما , ولا يساير الاتجاهات الشائعة والسائدة دون تحكيم عقله , وكل ما يهدف اليه هو تطوير العمل وترقيته , فلا يهمه اسقاط الآخرين أو ابراز ذاته أمام العيان من خلال نقده , لأنه يشعر أنه من السهل انتقاد الآخرين واكتشاف أخطائهم وابرازها , ولكن من الصعب بمكان  اكمال البناء , واتمام النقص وسد الثغرات , وسيكون بعيدا عن الهوى والتعصب والأحكام السابقة , ويفكر مليا معتمدا في ذلك على أصول شرعية وعقلية , فلا يتعسف في عباراته , أو يغلظ من أقواله , بل ينتقي دائما أعذب الألفاظ وأحسنها , ويرى أن النتائج في أي قضية ما , لا بد أن تتغير في ضوء براهين وأدلة جديدة , ويتعلم كيف يكون مدركا لما يتخذه من قرارات تواجهه في حياته اليومية , وسيكون مرنا متفتح العقل لتقبل الأفكار الجديدة , ولديه الشجاعة والجراءة للتراجع عن أفكاره حال ثبوت عدم صحتها , فلا يجادل الا في شيء يعرفه وقد تمكن  منه فعلا , مستندا الى مصادر علمية موثوق بها , فالتفكير الناقد يسهم في جعل الطالب أكثر دقة وفهما في كل مجالات الحياة , ويكون قادرا على الدفاع عن وجهة نظره . فليست مهارة التفكير الناقد تكتسب منذ الولادة , بل عن طريق الدراسة والفهم والتطبيق , فمن الممكن أن ينقد الانسان أي شيء ما , ولكن ليس كل انسان ينجح في نقده , فالتربية النقدية تهدف الى تنمية العقل القادر على اصدار الحكم على الأفكار والتصورات والأحكام الصادرة من الآخرين , لمعرفة مدى انسجامها واتساقها , وبالتالي تجعل الفرد لديه القدرة على الانتقاء والدمج والتكامل والتكيف بدرجة أكبر مقارنة بالأفراد الذين يفتقدون هذه المهارة , فيصبح الفرد يفكر تفكيرا تحليليا واستدلاليا ومنطقيا .
ان من يتقن ويطبق مثل هذه الاستراتيجية  في حياته لا يكون أنانيا فينظر الى كل شيء من محور الذاتية واستحقار آراء الآخرين , بل عليه احترام حقوق ووجهة نظر الآخرين , والتنازل عن رأيه اذا تبين له أنه غير صائبا . فالتفكير الناقد هو النظر بعمق الى كل الجوانب الايجابية والسلبية معا , للوصول الى الرأي الصحيح , فالنقد في اللغة العربية يعني اظهار الجودة والعيب في الشيء , فالتفكير الناقد يتضمن عددا من المهارات مثل تقويم ثبات ومصداقية المعلومة , وتفسير واستنباط واستخراج المعلومات الحقيقية , واختبار الفرضيات , وتتبع المغالطات , وتقويم الحوار والنقاش , واصدار أحكام منطقية , والتعرف على الافادة الناقصة , والقدرة على التنبؤ , واتقان مهارات الاستقراء في تحديد العلاقة بين السبب والنتيجة , والاستدلال بالتناظر , وفهم العلاقة بين الأجزاء والكل والتعميم , واتقان مهارات الاستنباط ومهارات التفكير التقويمي , مثل التمييز بين الحقائق والآراء والحكم على مصداقية المصدر , والتعرف على المزاعم الباطلة , وتقويم الفرضيات , والتنبؤ بالعواقب , والتعرف على المتناقضات  فيكون بذلك معتمدا على توظيف مهارات التفكير الذي يهدف التعليم اليه , والذي تنشأ مهاراته بشكل تدريجي في بنية وشخصية الطالب وفي تكوينه الذهني , حيث يصبح نمطا وأسلوبا في التعلم والتعامل مع الحياة العملية ومشكلاتها .


ان التفكير الناقد يسهم في تحرير الأفراد من التبعية للآخرين والاستقلالية في الرأي , ويمكنهم من استخدام معمق لقدراتهم الفكرية , مما يؤثر بشكل مباشرعلى تميز المجتمعات ورقيها , وهو الذي سماه " سقراط " ذات مرة ب " الحياة المتفحصة " , وهو ما ذهب اليه " جون ديوي " حين أكد أن المنهج القائم على مهارة التفكير الناقد سيكون مفيدا , ليس فقط للمتعلم الفردي ولكن للجماعة أيضا وللديمقراطية بوجه عام , وفي هذا السياق نبه " توينبي " الى أهمية تنمية قدرات التفكير الناقد والابداعي فقال : ان اعطاء الفرص المناسبة لنمو الطاقات المفكرة هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لأي مجتمع من المجتمعات . كما ألح " ديكارت " في قاعدته الشهيرة " البداهة " : على أن لا يسلم المرء بأمر أنه حق ما لم يتأكد بالبداهة أنه كذلك. وفي الوقت نفسه ذكر العلامة " ابن منظور " في لسان العرب النقد من الفعل , ( نقد ) بمعنى تمييز الشيء واظهار محاسنه وعيوبه وتنقيته وعزل ما حاد عن الصواب , والأبحاث المعاصرة تعرفه اجرائيا بأنه : تفكير تأملي معقول يركز على ما يعتقده الفرد أو يقوم بأدائه , وهو فحص وتقويم الحلول المعروضة من أجل اصدار حكم حول قيمة الشيء .


وبناء على ما سبق , فانا نتساءل عن مدى نجاح نظامنا التعليمي في اعداد الطالب الناقد الذي يحكم على المعلومات والمعارف والخبرات المختلفة , ويجد الأدلة التي يؤيد بها أفكاره وآراءه ! قد نتفق وقد نختلف على بعض التفاصيل ولكن الذي نتفق عليه جميعا هو أن لدى أبنائنا الطلبة استعداد للتعلم , وأن أعظم استثمار يمكن أن نقدمه لمستقبل أمتنا هو عقول ناشئتنا , وأن أدبيات علم التفكير الناقد والابداع تجمع على أن التفكير الناقد مهارة مكتسبة يكتسبها الانسان من التعلم , وهي ما تحتاج فقط الا الى مران وتدريب . ان استخدام استراتيجية التربية التلقينية التي تبناها البعض من مربينا التربويين الأوائل , وما زال البعض من الذين ورثوها ويطبقونها في أيامنا هذه , قد حولت الانسان الى وعاء مغلق يقضي على كل تفاعل خلاق , مما يؤدي ذلك الى أن يصبح السبيل الوحيد للاندماج في المجتمع هو التسليم الكلي للتصورات والخضوع للأحكام التي تفرضها القبيلة والعائلة والصحبة , مع فقدان القدرة على مراجعة الأفكار المسبقة , أو انتاج أفكار جديدة , فهي تحرم النظر في فهم الدليل والاستنتاج , وتنزع الى اعداد الأجوبة الجاهزة لتكريس الخضوع والاستلاب . لذلك  يعتبر من يؤيد التربية التلقينية  أن مناقشة المعلم في أمر ما , لهو دليل على عدم الثقة بامكاناته  ومؤهلاته , وأن الاعتراض على آراء الشيخ تجرؤ على مكانته  وجهويته , وأن الاستيضاح عن شيء ما من القائد الاداري لهو شك في قدراته . فالتفكير النقدي لا يعني الاعتراض لمجرد الاعتراض , ولا التشكيك في كل ما يقال , وليس هو بداية الطريق للنيل من مكانة الآخرين , بل ان التفكير النقدي يعمل على تربية حرية الانسان , وعلى اكساب الطالب عددا من المهارات التي يستطيع الطالب من خلالها أن يفرق بين الرأي والحقيقة , وأن يلم بالموضوع المراد نقده , وأن يكون منفتحا على الأفكار الجديدة , وأن يبحث في الأسباب والأدلة , وأن يكون لديه ملكة التأني في اصدار الأحكام وحب الاستطلاع والمرونة , وأن يكون قادرا على الفصل بين التفكير العاطفي والتفكير المنطقي , وأن يتمتع بالحوار والاقناع , وأنه يتبنى شعار " مدرسة تفكر ... وطن يتعلم " حيث يشعر أنه حقا شعار نهضة وطنه . فالمجتمع بحاجة الى دمج التربية النقدية في مناهجه التعليمية لكي يحفز العقول على ثقافة السؤال , والانتقادات البناءة , التي تسعى وراء الحقيقة , وتسهم في تنمية شخصية الطالب من أجل خلق مجتمع حر فاضل داخل وخارج أسوار المدرسة .


لقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس وجعلهم متباينين في أمور كثيرة , ولو شاء لجعلهم على قلب رجل واحد , فلا ينبغي اجبارهم على طريقة تفكير واحدة , وهذا مما يساعد على اعمار الأرض والأوطان واستمرار التقدم والازدهار فيها , ولكي تعمل التربية النقدية على تنمية ملكة النقد , ينبغي لها استبعاد التلقين باعتباره معيقا رئيسا لأشكال التفاعل العقلي , وباعتباره أيضا الربيب الأول للامتثال والانغلاق والخضوع في ظل الكم الهائل من التدفق المعلوماتي والتكنولوجي الحديث . ويجب التنبه تربويا الى احتمالية ان يكون الطلبة مستقبلين سلبييين , وعليه يحتاج الطلبة الى أن يتعلموا كيفية اختيار اللازم والمفيد من المعلومات , فالتفكير الناقد يتطلب اثارة الأسئلة وغرس ثقافة الحوار والتساؤل , وهذا مهم بالنسبة للمتعلم والمجتمع حتى يبقى المجال المعرفي حيا ومتجددا , وحتى تتحرر العقول من التعصب والأحكام المسبقة , وفي هذا السياق , فقد قارن فيلسوف الحرية في العالم الثالث " باولو فريري " برهافة مشوقة بين بنيتين للتفكير بقوله : " التعليم لا يكون محايدا , فاما أن يكون تعليما للحرية ! واما أن يكون تعليما للاستعباد ! وأنا أتعلم كيف أتحرر . "


ان توظيف استراتيجية التفكير الناقد بفعالية في مدارسنا , سيخلق جيلا قادرا على مواجهة التحديات التي يفرضها عليه العصر الذي يشهد تطورات هائلة متسارعة تغزوا مجتمعنا قد أتت اليه من المجتمعات الغربية الذين قد سبقونا في مجالات التطور بمختلف أنواعها , مما دعاهم هذا الى الحاجة الى التركيز عليها من خلال عقد المؤتمرات والندوات وورش العمل التدريبية , من أجل الابتعاد عن استخدام أساليب التلقين والتقليد , والانتقال من أنموذج التعليم التقليدي الى الابداعي لتضييق الفجوة بين المفاهيم النظرية والممارسات العملية على مستوى الصف والمدرسة , وهذا ما يستدعي الأمر الى تطوير منظومة العلاقات الادارية والفنية والاجرائية بين الأطراف ذات العلاقة بالعملية التربوية , ولا سيما على مستوى المدرسة كوحدة تطوير أساسية .


ان من واجب التربويين أن يوظفوا مهارات التفكير في مدارسهم ومؤسساتهم التعليمية , لأن  ذلك سيخلق جيلا مفكرا لا تابعا ومقلدا , وعليهم أن يؤسسوا نظاما تفكيريا يخلق لهم مركزية جديدة تجذب أنظار العالم اليهم , ويعيد لهم الأهمية في الابتكار والابداع كما كانت عليه أمتهم قبل مئات السنين , ويكون لهم دور فعال في تقدم شعوبهم وأسوة حسنة لغيرهم من الشعوب , فأمتهم ليست بحاجة الى خطابات رنانة , وأشعار مدوية , وترديد مقولات وضياع زمن وكلام فارغ , بل هي بحاجة الى نظام تفكيري جديد , وبناء العلاقات القوية مع الأمم المتقدمة والمشاركة الفاعلة في الابداعات العلمية والمنتجات النوعية , واختراق الأسواق الدولية , وانتاج الثقافات الجديدة المبنية على أسس علمية وأخلاقية هادفة , والتطور النوعي في الخدمات , وخلق المواطن الذي لا يلوك المقولات , ولا يتغنى بالأمجاد , ولا يفاخر بالسلالات , ولكن يتبنى فلسفة جديدة للحياة والتفكير . ومع كل ما سبق فانا لا ننكر أن هناك البعض القليل من المعلمين المبدعين المخلصين الذين يستخدمون استراتيجية التفكير الناقد في تدريسهم , ويضعونها نصب اعينهم وفي سلم أولوياتهم , ولا ننكر أيضا ان هناك الغالبية من العاملين في الحقل التربوي والتعليمي على قناعة كافية بأهمية تنمية مهارات التفكير لدى طلابهم , وتأكيدهم على أن المدرسة ليست هي عملية حشو لعقول الطلبة بالمعلومات,  بل هي قد أسست لخلق جيل واع مدرك لمسؤولياته في قيادة الأمة مستقبلا , مع تركيزها المتزايد والحث على التفكير والابداع , ولكن ما زال هناك البعض من التربويين الذين يحبون ويألفون التعايش مع الممارسات السائدة التي كانت تمارس في مدارسنا التقليدية , ولم يحاول الواحد منهم أن يكسر جدار المألوف أو الخروج عنه حيث يتحججون بأن توظيف هذا الهدف الاستراتيجي في صفوفهم يصطدم بالواقع عند التطبيق لافتقار النظام التربوي من خبرات كافية في التفكير, عداك عن طبيعة المناهج الدراسية التي تركز معظمها على مستويات التذكر والفهم . اننا نؤمن بأن المعلم هو سيد الحصة وأسدها وصاحب الكلمة العليا ومركز الفعل والتفعيل , ولكن الأهم من ذلك هو أن لا يحتكر معظم الوقت في الشرح وحشو الكلام ويجعل طلابه مستمعون سلبيون ومتلقون خاملون , وأن لا يعتمد في طرح أسئلته على عدد محدود من الطلبة , بل عليه توزيعها لتفعيل كل طالب موجود في الصف , وان يعطي وقتا للطلبة للتفكير في الاجابة قبل أن يشير الى أحدهم لاتاحة الفرصة لكل طالب للتفكير في الاجابة , مما يخلق تفاعلا صفيا ملحوظا , وعليه أن يستخدم التقنيات الحديثة في التعليم ويوظفها بفاعلية , وينوع بأسئلته لتشمل كل المستويات المعرفية والتفكيرية العليا , فلا تقتصر فقط على المهارات المعرفية المتدنية .


انه لمن المؤسف جدا أن نرى مناهجنا التعليمية قد أصبحت متأثرة بالافتراض السائد الذي مفاده أن عملية تراكم الكم الهائل من المعلومات والحقائق ضرورية وكافية لتنمية مهارات التفكير لدى الطلبة , مما ينعكس هذا على حشو عقول الطلبة بمعلومات وقوانين ونظريات عن طريق استخدام طرائق التلقين , كما ينعكس هذا على بناء الاختبارات المدرسية والعامة والتدريبات الصفية والبيتية التي تثقل الذاكرة , ولا تنمي مستويات التفكير العليا من تحليل ونقد وتقويم . وغالبا ما يعتمد النظام التعليمي والتربوي في تقويم الطلبة على اختبارات مدرسية وعامة قوامها أسئلة تتطلب مهارات معرفية متدنية كالمعرفة والفهم , وكأنها تمثل نهاية المطاف بالنسبة للمنهج المقرر وأهداف التربية , وعليه فان التعليم من أجل التفكير , أو تعلم مهاراته شعار جميل نردده دائما من الناحية النظرية , أما على الواقع , فان الممارسات الميدانية لا تعكس هذا التوجه .


ان التدريب على استخدام مهارات التفكير الناقد وتعلمها وتطبيقها عمليا قد اصبحت ضرورية حيوية , لتعميق الايمان في نفوسنا , واكتشاف نواميس الحياة , فهي لا تأتي ولا تنمو تلقائيا , بل تحتاج الى تعليم منظم هادف ومران مستمر , حتى يمكن ان يبلغ اقصى مدى له , وهذا النوع يشبه القدرة على تسلق الجبال , أو رمي قرص وغيرها من المهارات التي تتطلب تفكيرا متميزا . وأن تعلم عمليات ومهارات التفكير يعطي الطالب احساسا بالسيطرة الواعية على تفكيره حيث ينمي ذلك الشعور بالثقة بالنفس في مواجهة المهمات الحياتية , فالتفكير قوة متجددة لبقاء الفرد والمجتمع معا في عالم اليوم والغد , هذا العالم الذي يتميز بتدفق المعلومات وتجددها . وعليه فان تعليم الطالب مهارات التفكير هو بمثابة تزويده بالأدوات التي يحتاجها حتى يتمكن من التعامل بفاعلية مع أي نوع من المعلومات أو المتغيرات التي يأتي بها المستقبل .


ان ما يدور في الغرف الصفية وما نلاحظه جليا في مدارسنا هو أن دور الطالب في العملية التعليمية التعلمية محدود للغاية , ولا يتجاوز عملية التلقي أو مراقبة المشهد الذي يخطط له , وأن الممارسات القائمة تعتمد على التردد والتكرار , والحفظ المجرد من الفهم , مع اهمال توظيف مهارات التفكير الناقد التي ترفع من درجة الاثارة والجذب للخبرات الصفية , وتجعل دور الطالب ايجابي وفعال , الذي بدوره يؤدي الى تحسين مستوى تحصيله , ويحقق بواسطته أهداف التربية والتعليم المتوخاة , والتي محصلتها تعود بالنفع على المعلم والمدرسة والمجتمع برمته .
ان تعلم مهارات التفكير الناقد تمكن الطالب من تجنب الأخطاء الشائعة في استدلاله للأمور , فيستطيع التعامل مع المواقف المختلفة بطرق منطقية , فيصبح عندها أكثر صدقا مع نفسه , فيتعلم من أخطائه , ولا يخيفه الاعتراف بخطئه , ويكون أكثر استقلالية وتفهما لوجهة نظر الآخرين , ويطور قدراته على الاستماع اليهم بعقلية منفتحة , ويحسن قدراته على استخدام عقله بدلا من عاطفته , ويحدد مشاعره ويربطها منطقيا مع أفكاره , ويساعده على صنع القرار الحكيم في حياته اليومية , ويحسن من قدراته على البحث الجاد في كثير من الأمور التي تهم حياته ومجتمعه , وتنمي قدراته على المناقشة والحوار والقدرة على التواصل والتفاوض مع الآخرين , ويستطيع أن يميز نواحي القوة ونواحي الضعف في الآراء المتعارضة , ويقيم الآراء بطريقة موضوعية بعيدة عن التحيز والذاتية , ويقدم البراهين والأدلة والحجج الدامغة على صحة رأيه , ويقيم القضايا والمشاكل بشكل موضوعي , ولا ينقاد للآراء الشائعة التي يتناولها الناس , أو الانقياد لمعان عاطفية .


أيها الزملاء المربون الأفاضل


ان من الأهداف الرئيسة من تعليم أبناء أمتنا , هوغرس الأخلاق الحميدة والقيم المثلى في نفوسهم وتخريجهم كمفكرين ومبدعين ومنتجين , وأن لا يكونوا ملقنين سلبيين في تفكيرهم ومتواكلين , لأنهم هم الذين سيكونون عماد الأمة وبناة حضارتها المستقبلية وقادتها الذين سيقودونها نحو الرقي والتقدم والازدهار والأمن والأمان , وما على المربين الا أن يتمسكوا باستخدام هذه الاستراتيجية ويعضوا عليها بأسنانهم , لما لها من فوائد جمة تنعكس على صالح الوطن والمواطن على حد سواء , وأن يعدوا طلبتهم لمواجهة تحديات الحياة العملية  بهدف بناء الشخصية الموضوعية التي تحقق المواطنة المفكرة الصالحة والمشاركة الديمقراطية  , ولا يكون ذلك الا بتطبيق هذه الاستراتيجية بكل فاعلية في حصصهم التدريسية , وتدريب طلبتهم على توظيفها في جميع الأمور التي تواجههم بمنطق حواري وجدلي مفيد , لكي يصبحوا متمرسين في توزين وجهات النظر المتعارضة , والتوفيق بينها , وتقييمها من خلال الحوار والنقاش والمناظرة المنطقية , واثارة الدافعية لديهم , وذلك بانخراطهم جديا في عمليات التفكير الناقد , وعلى المربين أيضا خلق فرص لمشاركة واشراك طلبتهم بشكل نشط في التعامل مع مشكلات وقضايا حقيقية , وتشجيع الطلبة بالتريث والتأمل قبل مناقشة الخلاصات أو الحلول , وعلى المعلم أن يدع طلابه بمساءلة أنفسهم عن مدى فهمهم للمشكلة , ومدى قدرتهم على تحديدها , ومدى نجاحهم في تحديد معالمها بكل وضوح وشفافية , ومدى قدرتهم على التفكير بحلول أخرى , ومدى قدرتهم على التقييم وايجاد الحلول اللازمة والحقائق المرتبطة بالقضية وكيفية وصولهم الى الدليل الذي يحتاجون اليه .
ان توظيف مثل هذه الاستراتيجية في التعليم ستكون حافزا وحافظا على تلك العينة من الطلبة المفكرة المبدعة ولغيرهم كي يتحدثوا ويعبروا عن آرائهم بكل حرية , وأن يفكروا في جو بعيد عن التوتر والقلق وبدون خوف من العقوبات , وستكون بمثابة دعم لمهارات الاستفسار والتعلم الذاتي , وعاملا فعالا على توفير المواقف التي تثير التحدي , مما يؤدي ذلك لزيادة فاعلية أدوار الطلبة في المواقف الصفية , وزيادة اقبالهم على التعلم وحبهم للجو الصفي الذي سيسوده بالطبع جو من الديمقراطية والتسامح والتقبل لوجهات النظر المختلفة , وزيادة حيويتهم في تنظيم الخبرات التي يواجهونها , وستكون مساهما نشطا في اعداد الطالب للحياة وممارسة الأعمال الحياتية اليومية بأقل قدر من الأخطاء , وفي اثارة انتباه الطلبة ودافعيتهم للتفكير,  وتنمية قدراتهم على المشاركة الفعالة والاستقلال في طرح الآراء والأفكار , مما يجعل الطلبة أكثر مرونة وحيوية في طرح الحقائق والآراء والأفكار داخل الغرفة الصفية , وستجعلهم يفاضلون بين الأشياء التي تعرض عليهم , وسترشدهم بالموضوعية الى أقصى درجة ممكنة من أجل التوصل الى نتائج سليمة تتصف بالصدق والثبات , وستمكنهم من التحليل والتفكير بمرونة وموضوعية , والقدرة على اصدار الأحكام الناقدة , والوصول الى أحكام متوازنة .


فالتفكير الناقد أمر يجب على كل معلم أن يأخذه بعين الاعتبار عند كل حصة صفية لما له من أهمية بالغة في خلق جيل يمتلك استقلاليته في اتخاذ قراره بعيدا عن التبعية وفقا لمعايير منطقية بحتة , والتي يتطلع اليها كل المجتمعات وينظر اليها بكل شغف . فلا نريد أن يكون ذهاب الطلبة وايابهم من والى المدرسة مجرد رحلة ترفيهية , بل رحلة فيها صقل للعقول وبناء للشخصية , ونهوض شامل مبني على أسس دينية وقيمية وأخلاقية وحضارية حقيقية , فالتعليم يجب أن يؤثر تأثيرا محوريا في حياة الأمم ومستقبلها , فاما أن يقفز بها الى مصاف الدول المتقدمة  كاليابان وماليزيا وكوريا وتايوان والصين وغيرها , حيث استغلت هذه الدول كفاءتها البشرية وطورت مستوى التعليم في مدارسها وجامعاتها , وذللت كل العقبات التي واجهتها امام الابتكار والابداع , وطورت صناعاتها واقتصادها حتى غزت معظم دول العالم بمنتجاتها , أو اما أن تنزل الى الحضيض فتتكالب عليها الأمم وتتصارع للنيل منها ومن مقدراتها , وتصبح بالتالي دولة ضعيفة تبعية مستعمرة .


ان تعلم مهارات التفكير الناقد نعمة لا يعرف آثارها الايجابية , ولا يدرك مهامها ونتائجها , الا من استنار بنورها , وطبقها عمليا على أرض الواقع في حياته اليومية , اذ بواسطتها استطاع الانسان استعمار الأرض , وادراك حقيقة وجوده , وكيفية تحديد مسار هدفه . فلا تجعل ايها المعلم دورك قاصرا على التلقين ظانا أنك بواسطتها قادر على توصيل ما تريده من المعلومات الى عقول طلبتك , دون ان تفسح مجالا لأي منهم للادراك والتساؤل وتبادل الرؤى والأفكار بينك وبينهم وبين كافة الأطراف المستهدفة , ولا تجعل دورك يقتصر على الالقاء الذي يسمح لخطابه بالسيطرة والهيمنة على جو الصف , لأنك بذلك تخلق تعارضا مع حاجات الطالب الأساسية والنفسية , كالحاجة الى المشاركة وتأكيد الذات والحرية وغيرها من شؤون حياته , ولكن اجعل دورك فاعلا من خلال طرح الأسئلة المثيرة للتفكير , معطيا كل الفرص لكل طالب ليعبر عما يجول في خاطره وما يراه مناسبا , وليطرح آراءه وأفكاره بحرية تامة دون مواجهة أي ضغط ما من طرفك , ولتعلم أيها المعلم أن السلطة التلقينية التي يتبناها البعض من المعلمين قد تسيطر على شؤون الطالب الحياتية , وتحدد مصيره نحو الفشل في حياته العملية , وتمنعه من التحرر من القيود التي أسسها الاستعمار عليهم , مما يؤدي هذا الأمر الى تهديد لمستقبله فيكرهه , والى انعكاسات سلبية على الأهداف المتوخاة من المادة الدراسية , وعلى الأهداف المرسومة التي خططها أهل التربية والتعليم , والى خلق جو صفي مملوء بالقلق والتوتر والانفعال لا يتوفر فيه للطالب أدنى درجات الدفء والراحة المنشودين والضرورين لنموه واتزانه وتوازنه الداخلي وسلامة كيانه النفسي . ولكن لو اتيح للطالب ممارسة الحوار وتطبيق مهارات التفكير , فان من شأن ذلك سيولد لديه المعرفة التي يحتاجها , ويستفيد منها في حياته , ويستمتع بنصيبه مما انتج , وفي هذه الحالة , فان المعلم سيكون سعيدا ومتمكنا من تحويل اللذة السلطوية التي يتمتع بها , الى انجازات ملموسة ناتجة عن ممارسة لأفعاله التعليمية , وهذا العمل الذاتي يحقق للطالب نوع من الاستقلالية في اتخاذ القرار والثقة بالنفس . فلتكن مدارسنا منارة للفكر وتنويرا للعقول كمدارس الغرب في حداثتها , مواكبة للتحولات الجذرية في العلوم التطبيقية والتكنولوجيا والعلوم الانسانية لكي توفر لأبنائنا كل شروط الاستقلال والتحرر . وبعد كل ما سردناه في هذا المقال , فماذا ترون يا أهل التربية في حال طلابكم اليوم , فهل أنتم حقا أنتجتم منهم مفكرون !!!؟  وهل أنتم مقتنعون في ما تستخدمونه من استراتيجيات تعليمية في صفوفكم لتنمية مهارات التفكير لدى طلابكم  !!!؟  وهل أنتم لها مفعلون   !!؟؟؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد