التقدم التكنولوجي والتطور الاقتصادي والحكم الديمقراطي أهم القواسم المشتركة بين الولايات المتحدة وألمانيا . غير أن هذا الحاضر المشرق والمستقبل الواعد ليس هو كل ما يجمع بين البلدين، فلديهما أوجه تشابه أخرى تعود إلى الماضي، وهذا ليس كل ما فيه مشرقاً ولا سعيداً . وعلى قدر ما في تاريخ البلدين من إنجازات وإسهامات جليلة قدماها للحضارة الإنسانية في الثقافة والعلوم والفنون وغيرها، فإن هذا الماضي يمتلئ أيضاً بصفحات قاتمة في تاريخ البلدين، بل في سجل البشرية كله .
العنصرية بكل تجلياتها من إبادة جماعية وتمييز بصور شتى على أساس اللون أو العرق أو الدين، كانت إحدى شرور التاريخ ومآسيه الكبرى التي صنعتها واقترفتها الدولتان . في الحالة الألمانية اكتوى بنيران العنصرية كل من لا يمت بصلة إلى الجنس الآري ودفع الجميع ثمناً باهظاً لها وليس اليهود فقط حتى لو كانوا هم الأكثر معاناة .
في التجربة الأمريكية تجلت العنصرية في صورة أخرى لا تقل وحشية، حيث بدأ الفصل الأول من قصة الحضارة الحديثة في العالم الجديد بجريمتين من أكبر جرائم التاريخ هما الإبادة الجماعية للسكان الأصليين واستعباد السود بعد جلبهم قسراً وغيلة من موطنهم الإفريقي .
إذاً، كانت إبادة الآخر واضطهاده وإذلاله قواسم مشتركة مخزية جمعت بين التجربتين . وقد لا يثير هذا كثيراً من القلق حالياً إذا تم النظر إليه في إطار بعده التاريخي باعتباره صفحة من الماضي الأليم طويت بكل شرورها وآثامها وجرائمها، ولم يبق منها سوى ذكراها الموجعة . غير أن الأيام والأحداث تثبت أن هذا ليس صحيحاً تماماً، وأن بذور العنصرية ما زالت قادرة على التعايش، بل النمو في التربتين الألمانية والأمريكية . الأسبوع الماضي كان العالم على موعد مع حدثين جددا مخاوفه من هذا الاحتمال .
في ألمانيا خرج أكثر من عشرة آلاف مواطن في مظاهرة طافت شوارع مدينة درسدن للتعبير عن الرفض الشعبي للوجود الإسلامي . جرت المظاهرة تحت شعار بغيض هو "نحو قومية الأوروبيين ضد أسلمة الغرب" والعبارة اختصروها بالحروف الأولى لكلماتها لتصبح "بيجيدا" هذه الكلمة أصبحت بدورها أسما لحركة منظمة تقود الحملة ضد المسلمين .
لو أن هذه الحملة العنصرية انطلقت من أوكار أحد الأحزاب اليمينية المعروفة بمعاداتها للأجانب لكان الأمر عادياً . فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية واندحار الأنظمة النازية والفاشية في أوروبا ظلت هناك بؤر متناثرة للداعمين لأفكارها، وظلت هذه البؤر تطلق سمومها ضد الأجانب بمن فيهم المسلمون . غير أن التطور الجديد والمثير للقلق هذه المرة أن من يدعو للعنصرية ويدافع عنها هو تيار شعبي لا يستهان به، وليس حركة عنصرية صغيرة محدودة النفوذ والتأثير . كما أن المطالب لم تعد قاصرة على محاربة أو طرد الأجانب بسبب مزاحمتهم للمواطنين في فرص العمل، بل تحولت إلى رغبة في اجتثاث ثقافة كاملة بكل المنتمين إليها . وهم يتعاملون هنا مع الإسلام باعتباره غزواً ثقافياً لأوروبا .
نفس الحقيقة المؤلمة كانت أمريكا على موعد معها الأسبوع الماضي أيضاً . هذه المرة لم يخرج المواطنون في مظاهرة للتعبير عن مواقفهم العنصرية، وإنما سجلوها في استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" الشهير عقب صدور تقرير الكونغرس حول تعذيب المعتقلين المسلمين على أيدي المخابرات . جاءت نتيجة الاستطلاع بمثابة صفعة وجهها الأمريكيون إلى مبادئ المساواة والعدل وحقوق الإنسان . هذه القيم النبيلة التي تصور العالم أنها باتت مستقرة في نفوس الشعب أو على الأقل الشريحة الأكبر منه .
اعتبر أغلبية من شملهم الاستطلاع أن تعذيب الآخر مبرر، ومن ثم ليس هناك خطأ يستوجب المساءلة . تبني هذا الرأي 51% من المواطنين، وترتفع النسبة إلى 76% بين الجمهوريين . المثير للاهتمام أن 29% فقط من الأمريكيين قالوا إن التعذيب غير مبرر، في حين لم يحدد 20% موقفاً معيناً، وهو ما يعني ضمناً أنهم لا يدينون التعذيب .
أهمية الاستطلاع أنه يعكس رأي المواطن العادي وقبوله لإذلال وتعذيب أو حتى قتل الأجنبي المختلف معه في اللون أو العرق أو الدين، إذ إنه من المعروف أن كل جرائم التعذيب والانتهاكات التي ارتكبتها المخابرات كانت موجهة للمسلمين من عرب وغيرهم ولم يتعرض لها أمريكي واحد .
ولكي تكتمل الصورة لا بدّ من الإشارة إلى نتيجة استطلاع آخر أجراه المركز نفسه بعد الاضطرابات التي فجرها مقتل صبي أسود برصاص شرطي أبيض . في ذلك الاستطلاع أعرب 37% من البيض عن مواقف ذات طابع عنصري، حيث لم يعترفوا بأي معاناة للسود، ولم يوافقوا على شكواهم المريرة من عدم المساواة في فرص العمل والتعليم والرعاية الصحية، بل إن 47% من البيض أنكر وجود مشكلة عنصرية من الأساس، رغم أن مظالم السود ومظاهر عدم المساواة تترجمها أرقام رسمية موثقة حول الفجوة بينهم وبين البيض في الثروة ومستويات المعيشة والتوظيف وغيرها .
لا يتمنى أحد أن يكون ما حدث في ألمانيا والولايات المتحدة هو نذير لتكرار التاريخ أو عودة تدريجية، بدعم شعبي، لأحد أسوأ فصوله . الخوف الأكبر ليس في أن يخرج هذا الشر المستطير من أقبية التاريخ ليعصف بالبشرية مرة أخرى، ولكن الحقيقة الأكثر رعباً هي أن يكتشف العالم أنه كان على خطأ عندما تصور أن العنصرية أصبحت مجرد ذكرى أليمة في التاريخ الإنساني، بينما لم تكن أبداً كذلك . كانت تلك الشرور كامنة في النفوس وها هي تطل علينا الآن، لعن الله من يوقظها . – الخليج الاماراتية