وظيفة الحضارة

mainThumb

30-12-2014 12:57 PM

كما سبق وأن أشرنا في موضوع طبيعة الحضارة,إنها حملت معان مختلفة باختلاف الثقافات وتعددها وتنوعها في المجتمعات الإنسانية.ومما تجدر الإشارة إليه أن مصطلح الحضارة من المصطلحات الدينامية,أي مصطلح له معانيه وموضوعاته المحددة كما أن له قيم مرافقة لكل من معنى من معانيه ولكل موضوع من موضوعاته.

وللمصطلحات الدينامية مرجعيات ثقافية,وأصول تراثية,وبصمات تاريخية واضحة المعالم,تتجدد بتجدد قابلية الطواعية لسنن التغير والتغيير,وتتقيد بحقيقة الكيانات التعددية وواقعها لبني البشر.

كما أن للحضارة وظائف عديدة في الحياة البشرية تتعدد وفقاً لما تشهده عصورها من أطوار التقدم والتطور الذي يحمله التغيير في شتى الميادين التي تؤثر في طبيعة الحياة البشرية وتتأثر بتقلباتها السلوكية وجهودها الأدائية وتنصاع لتصورات عقلية معطاءة وبناءة وهذه كلها تتماهى مع طبيعة العصر وما يحمله من تجديد في الفكر وفي الأساليب المتبعة في الحياة العامة,الفرد مع ذاته والكل مع الكل.

وهي وظائف تنسجم مع متطلبات التحضر المتجددة والتي تتسارع دوماً إلى أمام دون إمكانية إعاقتها من أي كان.

وعن هذه الوظائف يمكننا القول,أنها تنقسم إلى :- وظائف إملائية شرطية التبني بعناصرها والتمسك بنصوصها,أي لا مناص لأي أمة أو جماعة قومية أو ثقافية للتنصل من التعامل مع موادها والعمل على الأخذ بها والتعاطي بموضوعاتها ووضعها موضع التنفيذ في مناهجها الحياتية والتربوية والتعليمية,وتقع في مقدمة هذه الموضوعات المخرجات العلمية ونظرياتها في العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وبيولوجيا ورياضيات وعلوم الفضاء والجيولوجيا وعلوم الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات,وفي العلوم الطبية والعلوم الهندسية, وأسسها وقواعدها واشتراطاتها,والمبتكرات التقنية وأدواتها ووسائلها.وإن كانت نتائج العلوم الإنسانية مترددة في ارتباطها بقيم التراث والمعتقدات الإيمانية.

وهناك الوظيفة الاسترشادية,التي تستوجب موضوعاتها الإشارة إليها والاستدلال بقواعدها والاسترشاد بضوابطها الاجتماعية كما تقرها الدراسات الاجتماعية والنفسية والتربوية والتراثية,وتفترض العلم بها كحدأدنى,والانتباه لمفرداتها في السلوك مع الأخرين من بيئات ثقافية أخرى,لهم تقاليدهم التي لا تتعدى كونها ممارسات متؤدبة في التعامل من الآخر باحترام.ذلك لأن المنجزات العلمية والتقنية  في الاتصال والتواصل بين الأفراد في كل انحاء العالم قريبه وبعيده,أضحت تمثل حالة تواصل دائم بتفاهمات مشتركة اللغة,وحوارات لا تخرج في أدبياتها على المألوف بما هو معلوم.

أو بعبارة أخرى لا تنسلخ تلك الأدبيات عن المشتركات في التراث البشري والقيم الإنسانية التي تتساوى في التمسك بها مختلف الثقافات وتعددية العقائد الإيمانية,لأن الفرضية في المألوف من المعلوم لا تشترط على سبيل المثال,العلم بتفاصيل بالعقائد الإيمانية الأخرى,وإنما في ضرورة احترام أي منها وكل منها في الحوارات التي تتطلب التطرق إليها,أو الإشارة إلى طبيعتها وضرورتها,وتفهم منطلقاتها وميرراتها بإصغاء العالم وتعليق العارف عما يتحدث.فلا فرض لرأي على الآخر ولا استهزاء بمعتقداته وقواعده الإيمانية.

ثم الوظيفة التنافسية,وهي وظيفية تعمل على التحفيز على أبراز أهمية العمل على دخول السباق الحضاري وتقديم المنجزات التي تهم مجتمعاتها ولها الصبغة العالمية التي تأخذ بهم مختلف المجتمعات.وتكمن أهمية التنافسية في إنها تحث أبناء المجتمع على ضرورة الاستجابة لكل استحداث وتعلم كل نظرية ومعرفة دقيقة لما يدور في المجتمعات الأخرى من منجزات قابلة للإضافة النوعية إلى ملتقى التراكم الحضاري المستدام,والمشاركة في البحث والدراسات واستقبال محددات التطوير والتحديث,  بعقل منفتح,ومتابعة دائمة.

والحضارة,وبدون أدنى شك, وبأي مستوى آلت إليه,لا يمكن أن تكون محصورة بجماعة ما أو ثقافة بعينها في مخرجاتها ومنجزاتها,فهي منذ الأزل تمتلك الصفة التراكمية لمنجزات  فكرية وعلمية وأدبية وسياسية وأكاديمية من مختلف الأجناس والطوائف والعقائد والأقوام على مر العصور والأزمان,وهذا البناء التراكمي ساهمت فيه شعوب شتى بمعارف مختلفة وعلوم تجديدية عن حاجات الإنسان وحاجات المجتمع.ولهذا كانت على الدوام ذات صيغ عالمية ومحتوى غلب عليه تعدد المصادر والمعارف والقيم الأخلاقية والتربوية.ولكن علينا الإقرار,دون أدنى تردد أو تحيز أو تجاهل, بتفاوت دور الأمم في كم الإضافات للتراكمية الحضارية ونوعه.وسرعة الاستجابة إلى فرضياتها وقواعدها ,وطواعية قبولها وتمتين الروابط بها ومعها,وهذا بدوره أضاف وظيفة جديدة للحضارة نسميها الوظيفة المعنوية المتباهية

وظيفة الحضارة المعنوية المتباهية (دون أن تتحول إلى عقدة التفوق),هي انعكاس للقدرة المجتمعية في دولة ما على تحقيق منجزات تنعكس بشكل مباشرعلى كل فعاليات المجتمعات الإنسانية وأنشطتها في المجالات المختلفة ,العلمية والعسكرية والمعرفية والتقنية والاقتصادية والسياسية والسلوكية والأخلاقية والعلوم الاجتماعية والأنسانية واللسانيات,وترفع من قيم الإنسان وتقر حقوقه الطبيعية في الحرية,والعيش الكريم,وتوسيع دائرة الخيارات أمامه وفتح أوسع المجالات أمام أفكاره وتخيلاته,والانعتاق من كل القيود التي قد تقيد أحلامه في التغيير والتقدم والابتكار واحترام مشاعره ومعتقداته.إنها ببساطة متناهيه,تفكيك كل القيود على الحركة وعلى الفكر وعلى العمل بل وتشجيع الفرد على أن يكون كذلك.

ها نحن إزاء التباهي (الذي لم ينفصل عن عقدة التفوق) الذي  تحول إلى عنصرية مفرطة نجدها في السلوك السياسي الأميركي – الأوروبي – الصهيوني,بعد أن تجاوز التفاوت الحضاري حدوده التنافسية إلى خلق هوة عميقة ومتسعة الأطراف بين الأمم,تلك العنصرية  التي عانت منه الشعوب العربية والإفريقية والآسيوية,قبل أن تتحق الصحوة الحضارية لدى العديد من هذه الأمم لتقيد الانفلات العنصري المتمادي في كثير من الدول وكثير من المواقف السياسية والعدائية تجاه الشعوب الضعيفة.ونأمل أن نرى كل دولة من الدول العربية تفعل الشئ ذاته متضامنة متكافلة مع شقيقاتها العربيات.

ولا بد من الإشارة إلى أن بعض المفكرين في الدول الغربية يرون أن وظيفة الحضارة تنسجم مع الحاجات السياسية المعاصرة كيفما كان نوعها,وأن هذا سيظل أمراً واقعاً في كل تجلياته.ويرون أن الحضارة أسمى شكل من أشكال الروابط الاجتماعية وأشملها.ولكن ما نشهده في عصرنا الحالي وفي العصور المنصرمة أن الحضارة الإنسانية عبر مراحل التاريخ ظلت عاجزة عن تهذيب خلق التعامل بين البشر,إذ استمرت الهمجية في القتل والنهب والسلب والتهجير والعذابات الإنسانية,واقتصر التحضر على فئات وجماعات مهاجرة كونت مجتمعات انحدرت فيها مستويات همجية السلوك ووحشيته بينهم إلى حدود دنيا.وهكذا اختزل معنى الحضارة إلى الإنجازات التقنية والمهارات المهنية وإهمال التحضر الذي كان على السلوك البشري الالتزام به.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد