إن للتعليم النظامي - و هو الشائع عالميا - محاسن لا ينكرها أحد ، من مثل مقدرته على تثقيف الطلبة ثقافة واسعة في أغلب العلوم ، و كذلك مقدرته على خلق مستويات عالية من التفاعل الاجتماعي الإيجابي بين الناشئة بعضهم تجاه بعض ، و تجاه فئات أخرى من الراشدين سوى أهليهم كالمعلمين ، هذا بالإضافة إلى تأهيلهم ليشغلوا الأعمال و الوظائف في مرحلة معينة من الرجولة .
لكن من جهة أخرى ؛ هل هذه الثقافات الواسعة التي نرهق الناشئ بها سنين طويلة ضرورية له في تسيير شؤون حياته ؟ و هل نحن بهذه الطريقة في التعليم نستغل طاقاته العقلية و البدنية و وقته و قابلية الإبداع لديه في كثير طائل ؟ و هل معاييرالكفاءة لنيل الوظائف - و التي تعتمد على الشهادات الأكاديمية المتوجة للتعليم النظامي الطويل - ؛ هل هي معايير مستقيمة و ناجعة حقا ؟ و هل الأموال الطائلة التي تنفقها الحكومات و الأهالي على التعليم النظامي عظيمة الجدوى و تعود بفائدة أعظم على الإنسان و الدولة ؟ و هل التعليم النظامي التقليدي هو السبيل الأوحد ليبني الناشئ منظومة علاقات اجتماعية جيدة ؟
ماذا لو اختزل التعليم النظامي المدرسي إلى ست أو سبع سنين بدلا من اثنتي عشرة سنة أو ست عشرة مع مدة الجامعة ؟ يقتصر فيهن التعليم على الحساب ، و القراءة و الكتابة باللغتين العربية و الانجليزية ، و أساسيات في كل من الثقافة الإسلامية و الثقافة الصحية و التاريخ و الجغرافيا و العلوم الطبيعية و الحاسوب و التكنولوجيا دونما إثقال على الناشئ و إكلال لذهنه بالحشو المعلوماتي الهائل الذي يمارسه التعليم النظامي التقليدي عليه .
بحيث يتخرج من المدرسة و هو مؤسس للاستزادة فيما يود الاستزادة منه بعد ذلك ، و إلا فيكون هذا كافيا لإنسان يتجه إلى العمل .
هذا مع إبقاء المسار الأكاديمي الطويل لمن يرغب من الناشئة أن يصبح عالما أو باحثا ؛ لكن بشرط اجتيازه امتحان مستوى صارما ، و ألا يرتقي إلى الصف الأعلى إلا نخبة النخبة .
أما من يرغب عن المسار الأكاديمي ، أو يرغب فيه و لم يجتز امتحان المستوى أو لم يستطع مجاراة متطلبات الدراسة الصارمة ؛ فليختر مسارا مهنيا و ليعمل فيه ، كالعمل في قطاع التجارة أو الصناعة أو الصيانة أو الزراعة أو السياحة أو الخدمات . فهذا ينخرط في مؤسسة أو شركة أو مصنع أو مشغل او مزرعة ؛ بحسب ما يجد و يرغب ، و ليعمل و لينتج ، و ليتعلم في عمله ما يحتاج إليه فقط دونما حشو أو زيادة لا فائدة منها ، و لا بأس أن ينخرط في دورات تخصصية بالتنسيق بين صاحب عمله و الحكومة .
و إنه بهذه الطريقة ترتجى فوائد عظيمة منها :
1-يكون الناشئ منتجا من وقت مبكر ، فيساعد نفسه و أهله عوض أن يبقى عالة مدة طويلة و عبئا ثقيلا عليهم .
2-يكون الناشئ عند بدء العمل في كامل طاقاته الذهنية ؛ غير متعب من الدراسة الإلزامية و واجباتها الثقيلة المملة إذ قد تحرر منها ، وما أن يشتد عوده حتى يكون خبيرا متمرسا في العمل الذي اختار و في المهنة التي أحب . فينعكس ذلك بشكل ممتاز على فاعليته و إنتاجيته ، ما يعني تحسنا كبيرا في الناتج العام الوطني .
3-كما أن الفتى العامل سيكون شخصا مسؤولا ، و لديه ما يشغله ، و عنده دخل حسن من كد يده و عرق جبينه ؛ فلا يكون فارغا للترهات و للعب الأطفال شطرا من رجولته . و سينعكس هذا بلا شك إيجابا على حياته الاجتماعية و سويته النفسية و نضوجه العقلي ، ما يؤدي إلى رشد ينفعه و من حوله و المجتمع ككل .
4-بهذا التغيير ستوفر الدولة ميزانيات هائلة كانت لتصرف على التعليم النظامي الطويل من غير كثير جدوى ، و التي يمكن أن تستثمر في تعليم جامعي ممتاز و في بحث علمي حقيقي تجاه طلبة هم نخبة النخبة . كما سيستثمر جزء منها في عقد دورات مهنية فعالة تفيد الناشئ و أرباب الأعمال في تطوير عمالهم و أعمالهم ، و في تحسين الأداء ، الأمر الذي يعود بالنفع العظيم بإذن الله على العامل و على صاحب العمل و على الاقتصاد الوطني العام .
5-إن هذه الطريقة تفتح المجال لإبداع الناشئ إذ تحرر وقته و ذهنه من قيود التعليم النظامي التي تقتل الإبداع و تدفنه . فإن الناشئ عندما ينخرط في مجال يحبه و يكافأ فيه على إبداعه ؛ لا شك أنه سيبدع و سيحاول أن يثبت وجوده في عمله و مهنته ، بخلاف ما لو كان مجرد طالب بين عشرات الطلاب في بيئة لا فسحة فيها حقيقية للأعمال الإبداعية .
إلى غير ذلكم من الفوائد و المزايا .
التعليم النظامي منظومة هائلة الحجم ، فلا يجوز أن تبقى على حالها عقودا طويلة دونما مراجعة حقيقية مثمرة .
و العبرة في الحكم على أي تجربة هي ثمرة هذه التجربة ، لا على كثرة من يعتمدها أو قدم العهد عليها .