كنت متشوقاً لقراءة كتاب هنرى كسينجر الجديد (النظام العالمي) لأكثر من سبب. المؤلف رجل مهم جداً، بل هو أحد أهم رجال قلائل يمكن القول بأنهم ساهموا في تشكيل النظام العالمي الحالي، يبدو أكثر غموضاً مما كان في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية، بل وربما منذ فترة أطول بكثير.
كما أن هناك نذراً بظهور عداوات جديدة، وعودة الحياة إلى عداوات قديمة، قد تهدد بحروب عالمية، قد تكون عالمية وقد لا تكون.
ولكن المؤلف ليس فقط رجل سياسة مهماً، بل اشتغل أستاذاً في جامعة هارفارد لمدة تزيد على عشرين عاماً، يدرس تاريخ العلاقات الدولية والتاريخ السياسي، وذلك قبل أن يعهد إليه الرئيس الأميركي نيكسون في 1969 برئاسة مجلس الأمن القومي، ثم عينه بعد ذلك بسنوات قليلة وزيراً للخارجية، وهي أول مرة يحتل فيها شخص واحد هذين المنصبين في الوقت نفسه. وها هو كتاب يؤلفه هذا الرجل المهم، ويحمل عنواناً هو بالضبط الموضوع الذي نريد فهمه، فكيف لا نتشوق إلى قراءته؟
ولكني لا أتردد، بعد الانتهاء من قراءته في القول بأنه خيبة أملي فيه عظيمة، عندما فكرت في أسباب خيبة الأمل هذه، قلت لنفسى إنني يجب ألا أستغرب ذلك، بل الغريب هو ما علقته على الكتاب من آمال.
نعم، المؤلف واسع المعرفة، وعظيم الخبرة وبالغ الذكاء، ولكن هل يمكن أن ننسى خطورة ما شغله من مناصب، في دولة كانت على الأقل في وقت شغله لهذه المناصب، أقوى وأهم دولة في العالم؟ إن بعض القرارات التي اتخذتها هذه الدولة، وقت احتلاله لهذه المناصب، كانت على درجة عالية من مجافاة قواعد الإنسانية والأخلاق.
ومن القسوة في معاملة الشعوب الأصغر والأضعف، مما لا يمكن ألا يكون وزير الخارجية ورئيس مجلس الأمن القومى واحداً من المسؤولين الأساسيين عنه. فهل نتوقع منه، عندما يجلس لكتابة كتاب قرب نهاية عمره، أن يعترف ويعلن خطأه، ويعبر عنه أسفه وندمه؟
ثم إنه على أي حال، رغم تركه لهذه المناصب، لا يزال رجلاً مرموقاً يحظى باحترام عام من السياسيين الأميركيين، الحاليين والسابقين، وما زال يؤخذ رأيه باهتمام، فهل نتوقع أن يوجه الرجل الاتهام لسياسة بلده، على أي نحو قاطع وصريح، على أساس أخلاقي أو إنساني، لمجرد أنه لم يعد يحتل منصباً مهماً في الإدارة الأميركية؟
لا أظن أن ذلك واقعي، فأقصى ما يمكن لرجل مثله أن يعترف به، هو خطأ أو تقصير بسيط هنا أو هناك، أو تأخر أو استعجال في اتخاذ قرار كان يجب اتخاذه بسرعة أكبر أو بعد تروٍ أطول. ولكن حتى هذا لا أكاد أجده في الكتاب كله.
فالولايات المتحدة، كدولة وحكومة، تحكمها (طبقاً لهذا الكتاب) اعتبارات الأخلاق، مثلما تحكمها المصالح (بل إنه يعبر عن المصالح بكلمة الأمن Security، على أساس أن المصالح ليست نبيلة دائماً، ولكننا جميعاً نريد لأنفسنا الأمن والأمان). ومبادئها الأخلاقية والإنسانية هي دائماً (هكذا يزعم كيسنغر) عامل أساسي في تشكيل سياستها.
إني أجد صعوبة بالغة في قبول ذلك، لا في ما يتعلق بالولايات المتحدة ولا بغيرها، بل من الطبيعي أن يكون قبوله أصعب عندما تكون الدولة المعنية هي أقوى دولة في العالم منذ منتصف القرن العشرين، فالقوة في حد ذاتها دافع للخروج على قواعد الأخلاق (هكذا أظن)، ولا ادعاء عكس الحقيقة، كما أن العالم يبدو لي وكأنه يزداد بعداً عن التزام مبادئ الأخلاق، مع اشتداد قوة المصالح الاقتصادية، وغلبتها على ما عداها، مثلما يبدو أنه حدث في العالم منذ منتصف القرن العشرين.
كان كسينجر وزيراً للخارجية ورئيساً لمجلس الأمن القومي الأميركي وقت حدوث انقلاب بنيوشيه في شيلي، الذي لعبت فيه المخابرات الأميركية دوراً أساسياً، وراح ضحيته الرئيس التشيلي اليندي ونظامه الديمقراطي وآلاف الأبرياء.
كان كسينجر يحتل هذين المنصبين أيضاً عندما أرسلت الولايات المتحدة المزيد من الأسلحة لتمكين الإسرائيليين من وقف تقدم الجيش المصري لاستعادة أرضه المحتلة، ولتمكن الجيش الإسرائيلي من الوصول إلى غرب القناة، ومحاصرة الجيش المصري الثالث في سيناء.
في الجزء الأكبر من الكتاب، يقدم كيسنغر استعراضاً تاريخياً ممتعاً لتطور ما يمكن تسميته «بالنظام العالمي»، في ظل سيطرة مركز بعد آخر من مراكزه أو إمبراطورية بعد أخرى: روما، والصين، والخلافة الإسلامية، وأوروبا العصر الحديث، والولايات المتحدة.
هذا الاستعراض يحتوى على ملاحظات شائقة كثيرة، ومبتكرة، يمكن أن تعوض القارئ عما يفتقده من ربط التاريخ الشيق بالحاضر المعقد أو بالمستقبل المجهول.
وخلال هذا الاستعراض التاريخي، يرسم المؤلف أيضاً صوراً بالغة القوة والجاذبية لبعض الأمم والثقافات التي يتناولها (لا عجب أن كان العنوان الفرعي للكتاب: «تأملات في شخصية الأمم وتطور التاريخ»)، من هذه الأمثلة الممتعة، وصفه للشخصية الروسية وما فيها من صلابة وقوة الشكيمة.
فيصف كيف هزم الروس نابليون، عن طريق قيامهم بإحراق ما لا يقل عن أربعة أخماس عاصمتهم، موسكو، حتى لا يجد الجيش الفرنسي ما يؤويه أو يقتات به، فعجز هذا الجيش عن التقدم داخل روسيا أكثر من ذلك، وعاد مدحوراً. ويقتطف كسينجر ما علق به نابليون على هذا العمل البالغ الشجاعة، والذي وضع حداً لأحلامه الإمبراطورية: «يا له من شعب.. يا لها من رابطة جأش وقوة عزيمة.. هؤلاء البرابرة!». – (البيان الاماراتية)