(2011 – 2015) حراكات خارج منطق التاريخ - 6

mainThumb

13-02-2015 01:37 PM

تفقد ثورة المطالبة بالحريات,والنضال من أجل استقلال القرارالوطني من كل مصادر الهيمنة بريقها الوضاء,وينحسر مدها الثوري إلى الحدود الدنيا وتذبل حيوية أسبابها ودوافعها ما لم تنجو ببراعة من الوقوع في قبضة قوى مستغلة للظروف الثورية,مستفيدة من تخبط النظم الهاوية إلى السقوط,متربصة بانبثاق رايات الحرية,وهذه القوى على الرغم من مشاركتها القوية والواسعة في الانتفاضات الشعبية,وفي الحراكات الحاسمة التي تتحدى النظم الاستبدادية هي في جوهرها قوى تحمل الفكر التقليدي الذي يقطع الصلة بالواقع,ولا يرى متطلبات المستقبل ويرفض شروط التقدم ويحاول التصدي لتيار التغير الجارف,ويتبنى المبادئ العامة القبْـلية,ولا يدرك أن العالم من حوله يخوض في غمار البحث في حمى النهايات وجدل الما بعد( وهذا فكر يحاول أن يماهي بين التطور الذي تشهده الحضارات الإنسانية وتوصيف ظواهره بمراحله المختلفة,كالقول مثلاً : مرحلة المجتمع بعد الصناعي,مقابل مصطلح المجتمع الصناعي السائدة من عهدالثورةالصناعية في القرن السابع عشر, مرحلة ما بعد العلم ,مرحلة مابعدالاقتصاد,مرحلة ما بعد ابديمقراطية...... وقد أشرنا إلى هذا التوجه في التفكير في كتابنا :القومية والعولمة,الوعي القومي والنظام العالمي الجديد,2001),وهي قوة أبوية الطابع وسلطوية المناهج لا ترى الصلاح إلا فيما يصلح لاعتلائها سدة التحكم بمصير الناس ومستقبل الأوطان,وفكرها فكر يعادي,بالضرورة كل  ما سواه من فكرورأيها لا يقبل أي رأي مقابله وتصم آذانها عن كل نصيحة أو مشورة.

معارضة النظام الذي انتفضت عليه مكونات الشعب انتفاضة جماهيرية واسعة,وقدمت الشهداء بمقارعة جسدية ومقاومة مسلحة بإرادة صلبة التقت كل مكونات الشعب فيها عند ضرورة تغيير النظام الفردي والتخلص من أسباب القهر والظلم وانعدام المساواة القانونية والعدالة الدستورية,ونيل الحرية مجسدة المعنى الحقيقي للإرادة الشعبية تجسيداً شامخاُ, تستعصي على زخمه كل أسباب التراجع أو التهاون في حجم المطالب المشروعة والتصميم على تحقيق أهداف الثورة,ليس بأي ثمن كان,أي دون اللجؤ إلى العنف والتخريب وإشعال الحرائق وقتل الجنود  والمجندين وأفرادالأمن والتفجير للسيارات والعقارات وزرْع المتفجرات,وإنما بالحفاظ على قيم الطهارة الثورية التي لا تضاهيها أي طهارة في الأوضاع السياسيةأوالاجتماعيةالمتناحرة.والطهارة الثورية,تتجلى قيمها بتصحيحها لكل المعاني الشاذة لمفردات التعامل في السياسية وبنى السلطة الجديدة وهياكلها, وطبيعة الحكم المنشود ومرجعياته الأخلاقية.وهي الوليد الطبيعي لالتقاء مكونات الشعب على إرادة التحرر من النظم الفردية والحكام القساة,والنظم والأبوية  والقمعية والفاسدة من أجل رفع شأن الكرامة الإنسانية ومنظوماتهاالقيمية,والحفاظ على قداسة حقوق الإنسان الطبيعية وحقوقه القانونية.ولهذا فإن الشعارالذي على كل مشارك في الثورة المناداة به باعتزاز يتركز على إنه لا تراجع عن زخم الإصرار الشعبي على تحقيق المطالب العادلة,وضمان الحقوق الكاملة لكل مواطن,الذي لن تقوى على دحره أو هزيمته كل أجهزة السلطة بمختلف تسمياتها,ومهما تعاظمت التضحيات في سبيلها,والتزام الثواربعدم اللجؤ,تحت أي ظرف, إلى أي شكل من أشكال العنف وإثارة الرعب والتخويف.

ليس من العصي على الفهم,التمييز الواضح بين الثورةالشعبية لتغيير نظام بعد أنْ يكون قد فقد شرعيته الشعبية والدستورية والأخلاقية,وبين الثورة المسلحة لتحريرالبلاد من طغيان قوى استعمارية,أو قوى احتلال عسكري وتطهيرها من المحتلين والمغتصبين كما هو حال فصائل الثورة الفلسطينية التي حظيت وما زالت تحظى باحترام جماهيري(على الرغم من الصمت الخجول على مناقشة سلوك حماس ونقده نقداً ثورياُ تجاه تقتيل أعضاء حركة فتح المقيمين بغزة وتشتيتهم,وقسمة أطراف القضية الفلسطينية إلى حكومتين دون مسوغ ينسجم مع المبادئ الثورية التحريرية,وهو سلوك غريب ومستهجن,وموقفها من الحرب الدائرة في سوريا كذلك يثير الريبة في قدرة العقائد على استيعاب دور الجماهير في إدارة شؤونهم من خلال نظم حكم متطورة في شكلها وفي وظائفها المعاصرة),ودعم مادي وبشري ومعنوي,لا ينقطع وحافظت على حق الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال من الاحتلال الاستيطاني الصهيوني.و ظاهرة التحرر من الاستعمار ومن الاحتلال,من حقوق الشعب المقرة والمعترف بها على كل الصعد الوطنية والدولية وفي كافة التشريعات المحلية وتلك التي أقرتها المحافل الدولية.

ولعله من غير المبالغة أن نقول : يحمل التاريخ الإنساني في ثناياه قوة كامنة في ضمير كل إنسان وفي وجدانه, تحفزالعقل الناضج على التفكير في المستقبل, وتحرض العقل الواعي على القيام بالثورة التقدمية,أي الثورة التي تنتقل بالمجتع إلى مسار التماهي مع المستجدات الحضارية والتنموية,على كافة القوى المعيقة للتقدم ,وتميز بكل شفافية بين العمل الثوري المنسجم مع ذاته النهضوية فكراً وعلماً وأساليب حياة وتعامل, وبين العمل الغوغائي المضطرب الغايات والأهداف والمُنبت من أطماع وهمية : فالأول يهدف إلى الحرية الفردية والتحرر من القيود بكل أشكالها وانتهاج وسائل التقدم والترقي وتقنياتهما ومرجعياتهما الفكرية والعلمية والثقافية,أما الثاني فجل اهتمامه تحقيق المصالح الفئوية المقتصرة على أطماع شخصية تخص فئة من المجتمع أوجماعة لها أيدولوجيا ترى في فرضها بالترهيب والتخويف والوعيد,على المجتمع هدفاً ساميا ً من أهدافها.

ولا إنكارلحقيقة منظورة وملموسة: أنه ليس كل تغيير في المسارات السياسية ومبادئها العامة منها والخاصة التي يحملها تنظيم أو تتبناه جماعة,ينقل السياسة  القائمة إلى مستوى أكثر رقياً وأسرع تجاوباً مع حاجات الفرد السيادية.والأمر ذاته ينطبق على التغير الإقتصادي,إذ قد يقود تغير المنهج الإقتصادي أو على جزء منه إلى كارثة اقتصادية,ويتسبب في خسارات جسيمة.ومن هذه التجربة نستخلص أن أهم ما يميز الثورة أي ثورة في هذا العصر هي الصبغة الحداثية  في مقابل الجمود العقائدي,وهي أنها ثورة شعبية بالمعنى المطلق,أي ثورة تلتقي عند أهدافها العامة معظم إنْ لم يكن كل مكونات الشعب بتعددية أعراقه وأطيافه السياسية والثقافية وتنوع طوائفه وفئاته,والتزامها بمناهج تقدمية الثورة في انتهاج الأساليب والوسائل التي تمارسها في مسيرة الثورة تكون مشاركة معظم هذه المكونات من ضرورات النجاح في الوصول إلى الغايات.ومن المؤكد إنه ليس من (شعب) واع يدعي الثورة ويقتل جنود جيشه و أو يعتدي على معسكرات قواته المسلحة وطواقم جتودها وأفرادها, ويقتل قوى أمنه ويهدم مؤسسات مجتمعه ويحارب دولته بتدمير بناها الخدمية والاقتصادية والاجتماعية والتراثية واستهداف طوائف منها ومناصبتها العداء ... ويعتمد سلاح تفجير السيارات المفخخة في الأسواق والأماكن العامة والمدارس والجامعات ويفجرها في أوساط المدنيين,فالثورة لها قيم ثورية جليلة وهي عمل أخلاقي في الأساس,ومن لحظة البداية,ولم يحدث أن قتل جيش شعبه,فالجيش أولاً وأخيراً هم أبناء الشعب وحماة دولته التي يقرر الشعب شكل النظام فيها.

ما نعتقد بصواب وصفه للثورات التقدمية,تمثلته الثورة الشعبية في تونس خلال مراحلها التي مرت عليها,والتي يمكن تقسيمها إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى : نجاح الثورة في التخلص من الحاكم الظالم المتعجرف القمعي.دون إراقة الدماء وبمجابهة  جماعية جريئة وبإصرارللأجهزة الأمنية دون عراك معهم وتحمل قسوة هراواتهم.

وفي المرحلة الثانية : التصدي  للقوى التقليدية التي حاولت سرقة الثورة,والاستئثار بمنجزاتها والانقضاض على أهداف الثورة في الحرية والتحرر وعمدت إلى حكم البلاد بالترهيب والاغتيال لقوى التحرر وللقوى الوطنية والقومية والليبرالية,والذهاب بالبلاد من حكم الفرد الطاغية إلى حكم  طغيان قوى وتيارات أشد ظلماً وأكثرعداءً للحريات وللتقدم,ولا تشكل المعاني الثورية أي فقرة من فقرات عقيدتها السياسية أو مفردة من مفردات دفتر النظم الحديثة وعباراتها.وعادت بالبلاد إلى مساق التحول إلى الديمقراطية كملاذ آمن لاستقرارالوطن وترسيخ أركان نظام على الطرزالحديثة والمعاصرة.وكانت هذه المنجزات الثورية تقدم درساً عربياً في ثقافة الثورات الشعبية على نظم الظلم من جهة وعلى قوى التخلف من جهة ثانية. 

ولهذا فإن الثورة هذه,أي الثورة التونسية, شكلت حدثاً سعيداً  مدعماً للمعنويات للقوى الوطنية والتقدمية في أرجاء الوطن العربي.وممالاشك فيه أن الثورة هذه شكلت نموذجاً حياُ للقوى الوطنية والقومية والديمقراطية وتجمعاتها في الدول العربية,وأنارت طريق الأمل بالتحرر من التسلط ونظمه وأزلامه,ومرارة التخلف وسوئه.فهل كان ما شهدته الدول العربية بعد ذلك من أحداث فيما بعد,متعظاً بالتجربة التونسية ؟؟هذا ما سنتطرق له في مقالاتنا القادمة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد