فارسٌ من زمن آخر (الجزء الأول)

mainThumb

16-02-2015 09:40 AM

عزيزي القارئ: سأترجّل عن صهوة حصاني لأجلك حتى ننطلق سوية في رحلة سأصطحبك فيها إلى ما قبل جيل القومية العربية وصعود نجمها في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. لذا أرجوك أخي أن تتحلى بقليل من الصبر وكثير من الإيمان ذلك بأن ما ستقرأه قد يثير ضغينتك ويرفع ضغطك لا سمح الله وساعتها سأضطر لأن آخذك على حصاني إلى أحد المستشفيات العربية لكي يعالجك هناك طبيب لا يعرف طبيعة علّتك أو سقمك، وهكذا ستكون حالتك مؤسفة ولن تجد من يهتم لأمرك، ولذلك أقول بسم الله الرحمن الرحيم ولتبدأ الرحلة المباركة..


بدأنا من مدينة القدس ومن مسجدها الأقصى حيث صلينا صلاة الفجر جماعة متمنين على الله دوام هذه النعمة الجليلة. وتوجهنا لمسجد قبة الصخرة لنشاهد الصخرة التي أسرى منها رسولنا الكريم محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وصلينا ركعتي شكر لله في المصلّى الصغير داخل الصخرة، وبعدها خرجنا لتناول طعام الفطور في شوارع المدينة العتيقة فمررنا على المحال في الأزقة وشوارعها الجميلة ورائحة الياسمين والهواء العليل يداعب أنوفنا ولم يكن هنالك ما يعكر المزاج من جنود ومرتزقة الاحتلال الإسرائيلي ولا صوت السيارات المزعجة والمنفّرة ودخانها الذي يسكن شوارعنا وأحياءنا ويزكم أنوفنا هذه الأيام. تناولنا طعاما فلسطينيا بامتياز ويتكون من زيت وزيتون وزعتر ورغيف خبز حار وكاسة شاي أخضر بالميرامية التي أنعشتنا وأعطتنا زادا نتقوى به في رحلتنا الطويلة. قمنا بعدها بزيارة مدينة بيت لحم حيث مررنا على كنيسة المهد مسقط رأس سيدنا عيسى عليه السلام وفي ظلال الكنيسة استشعرنا من السكينة والوقار الشيء الكثير. هذه الأرض المقدسة التي وطأتها معظم أقدام أنبياء الله ورسله وكل حبة رمل فيها شاهدة على تاريخ عريق وأمجاد عظيمة وأمم قامت ثم زالت.


وإن سألتني سيدي القارئ إلى أين نحن متجهون فسأقول لك بكل بساطة أرض الله واسعة وأرض العرب كبيرة جدا. مررنا على مدينة الناصرة ومنها عبرنا مرج ابن عامر أجمل سهول الدنيا قاطبة وأخذنا فيه غفوة صغيرة لنتابع بعدها المسير. وعند الحدود الفلسطينية اللبنانية وقبل عبورنا قد تسألني صديقي: كيف سندخل بدون جواز سفر ولا يوجد لدينا فيزا؟ سأهمل السؤال وأتابع وتتبعني وأنت خائف.. وصدقني ليس هنالك مبرر للخوف فلا يوجد حدود ولا نقاط تفتيش ولا نعرف الفيزا في زماننا هذا. عبرنا جنوب لبنان ومررنا على نهر الليطاني واغتسلنا بمياهه العذبة الغزيرة (حينها). وأحب أن ألفت نظرك سيدي القارئ أن لا قيمة للوقت في رحلتنا هذه لأنها رحلة عبر الزمان والمكان ولا تخضع لقوانينكم الحالية وإلا فإنها لن تكون أصلا. وصلنا مدينة بيروت الساحرة ومياه البحر الأبيض المتوسط تداعب شواطئ هذه الحسناء اللبنانية الجميلة واسترجعت مع صوت مياه البحر حروب الفينيقيين وبطولات هنيبعل العظيمة.كانت بيروت وجبالها المطلة عليها كأنها أيقونة للجمال خلقها الله فأبدع في خلقها، ولا تتعجب إذا قارنتها ببيروت اليوم التي تشبه إمرأة عجوز شمطاء تساقطت أسنانها وتجعّد وجهها، ويداها لا تكف عن الاهتزاز. تابعنا المسير ومررنا على عروس الشمال طرابلس لنشهد فيها السكينة والهدوء والمساحات الخضراء المنقطعة النظير وكروم العنب ومزارع البرتقال والمشمش والخوخ والكثير الكثير ما لا يعد ولا يحصى. توجهنا لاحقا نحو الشرق فإذا بنا في الفيحاء (دمشق) عاصمة الأمويين مدينة التاريخ العريقة ومهد الحضارات وعشنا فيها سويعات رائعات في سوق الحميدية وباب توما وشربنا من نهر بردى مياها عذبة وصعدنا إلى الزبداني لنشم عبيرا يعيد الشباب للبدن والروح. قال لي رفيقي حسنا أيها الفارس الهمام إن كنت تدّعي العِلْم والشجاعة فخذني إلى بغداد عاصمة العباسيين ومدينة المنصور.. هيا.


طبعا قبلت التحدي بلا تردد فامتطينا راحلتنا وتوجهنا إلى حيث أراد رفيقي وفي الطريق أوقفنا قطاع الطرق وسألونا عن وجهتنا وفتشوا أمتعتنا، استغرب أحدهم من لباس صديقي وساعته ونظارته الشمسية اللاتي كان يرتديهما وسأله من أين لك هذه الأشياء؟! كان شكلها فعلا ملفتا للأنظار وأراد مرافقي أن يقول لهم أنه ليس من هذا الزمان فغمزت له بعيني أنْ اصمِت وقلت: لقد وجدناها في بعض أمتعة الجنود العثمانيين الفارين منذ أيام وإن أردتها فخذها. وبدون تردد أخذها من رفيقي وأمرنا بالمغادرة. وساعتها صاح صديقي كيف لك أن تمنحه ما لا تملكه؟ فقلت وما الجديد في ذلك فبريطانيا منحت اليهود؛ فلسطين أرضا لدولتهم المزعومة وهي ليست ملكا لبريطانيا ولا لليهود.. فلا تستغرب يا صديقي وأرجوك تابع ولا تسألني كثيرا مثلما فعل سيدنا موسى مع الرجل الصالح "الخضر". تابعنا المسير حتى وصلنا أطراف مدينة المنصور وتناولنا وجبة غداء شهية جدا وهي كباب عراقي مشوي على الفحم مع الصمّون الحار ذي الشكل المميز وازدردنا استكانة شاي مخدّر بطريقة لا يتقنها سوى أهل الرافدين فقط وتابعنا نحو قلب العاصمة التي كانت تعجّ بالنشاط وأصوات الباعة ترتفع من هنا وهناك في شارعي "الرشيد" و "أبو نواس". وهناك على ضفاف نهر دجلة الخالد تبادلنا النقاش في مصير هذه البلاد في أيامنا هذه ؛ كيف كانت وكيف أمست وشربنا ما شربنا حتى الارتواء من جمال النهر ونسيمه العليل حتى أزفت ساعة العشاء لنتناول وجبة العشاء الشهيرة "السمك المسكوف مع خبز الطابون الحار" وغشينا النعاس من التعب والشبع فنمنا لا نلوي على شيء والأرض فراشنا والسماء غطاءنا حتى أفقنا على كارثة مدوية... وإلى بقية الرحلة في مقال آخر.

z_alweher@hotmail.com
 
 
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد