شرحُ ( كأَنَّ مَزَاحِفَ الحيَّاتِ فيه .. قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثارُ السِّيَاطِ )

mainThumb

08-04-2015 10:32 AM

لقد عرفتُ هذا البيتَ من قديمٍ ، وبَقِيَ عالقاً في الفؤادِ ؛ لِأنَّ الرائعَ يَلِجُ القلبَ دون استئذان !


ومرَّتْ الأيامُ والشهورُ والسنون ، حتَّى عَفَى في القلبِ أو كاد ، ثم جاءت الأمطارُ فأحْيَتْهُ من جديد ، فعادَ يَهتَزُّ كأنَّهُ عُوْدُ مَوْزٍ في تِهامَةَ أو أَوْدِيَةِ هُذيل ، اقتنيتُ كتابَ ( شرح أشعار الهُذَلِيِّيْن ) صَنْعَةُ أبي سعيد الحسن بن الحسين السُّكَّري – رحمه الله – فوجدتُ القصيدةَ كامِلَةً وهي أروعُ قصيدةٍ في قافية ( الطاء ) كما ذكر غيرُ واحد من القدماء .

وصاحِبُها هو : مالك بن عويمر من بني لَحْيان من هُذَيْلٍ ، ولَقَبُهُ : ( المُنَخَّلُ ) ، ومطلعُ قصيدتِه :

عَرَفْتُ بِأَجْدُثٍ ، فَنِعَافِ عِرْقٍ


......عَلَاماتٍ كَتَحْبِيْرِ النِّمَاطِ

ثم قال :

وما أَنْتَ الغَدَاةَ ، وَذِكْرُ سَلْمَى


..... وأَضْحَى الرَّأْسُ مِنْكَ إلى اشْمِطَاطِ

كأَنَّ على مَفَارِقِهِ نَسِيْلاً


..... مِنَ الكِتَّانِ يُنْزَعُ بِالْمِشَاطِ

ثم أخذَ يذكُرُ لمحبوبتِهِ ( أُمَيْمَةَ ) ضَرْبَهُ في الأرض ، وَتَعَرُّضَهُ لماءٍ بعيد المسالِكِ ، تصِلُهُ طيورُ القطا ، ونوعٌ خاصٌ منها ، وهو ( الغَطَاط ) ، وهذا الموردُ قليلٌ وِرْدُهُ إلا من السِّبَاعِ ، التي تأتيه طالبةً الشُّرْبَ والرِّواءَ .

وسأذكرُ وصفَهُ لهذا الوُرُودِ ، ثم نُعَرِّجُ على البيت الذي هو جمالُ القصيدة ، ومَعْدَنُها :

وماءٍ قَدْ وَرَدْتُ أُمَيْمَ طامٍ


..... على أرجائِهِ زَجَلُ الغَطَاطِ

قليلٍ وِرْدُهُ إلَّا سِبَاعاً


..... يَخِطْنَ المَشْيَ كالنَّبْلِ المِراطِ

فَبِتُّ أُنَهْنِهُ السِّرْحانَ عَنِّيْ


..... كِلانا وَارِدٌ حَرَّانَ ساطِيْ

كَأَنَّ وَغَى الخَمُوْشِ بِجَانِبَيْهِ


..... وَغَى رَكْبٍ أُمَيْمَ ذَوِيْ هِيَاطِ

كَاَنَّ مَزَاحِفَ الحَيَّاتِ فيه


..... قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثارُ السِّيَاطِ

وسوف نذكر الأبيات ، وشرحها بشكلٍ مُجْمَلٍ إلا الآخَرَ فهو طِلْبَتُنا ، ومقصَدُنا الذي عندَه نريحُ رواحِلَنا ، ونأخذُ حاجَتَنا .

فهو يصف ماءً وردَهُ بعيدا عن بني البشر ، وآرِدُوْه غالباً من السِّباع وَوَحْشِيِّ الطير ، فالسِّباعُ الذئب ، وإنْ كنَّا نعلمُ أنَّ هذيلَ تُطْلِقُ على الأَسَدِ : سرحانَ ، ومن الطيور نوعٌ من أنواع ( القطا ) ، وهو ( الغطاط ) .

وهذا الغطاط له زَجَلٌ ( صوتٌ ) حول الماء ، وذلك لِشُعُوْرِه بالأمان والأمن ، لأنَّه مورِدٌ بعيدٌ عن الأنسيِّ ، وشاعرُنا يُعاركُ الذئب عند هذا الموردِ ، فكلاهما حرَّانَ ، وكلاهما يتربَّصُ بِصاحِبِه الغوائِلَ ، وذلك في معنى كلمة ( ساطي ) !

وأضاف شاعرُنا رائداً من الحشرات المُزْعِجَةِ لهذا الموردِ ألا وهو ( الخَمُوْشُ ) وهذا من أسماءِ البعوضِ ، التي تخمشُ الجلدَ وتزعِجُه ليلاً ، وهذا دليلٌ على أنَّ شاعِرَنا جاءه ليلا ؛ لأنَّ البعوضَ ينشطُ إذا غابت الشمسُ ، وقَدِمَ الليلُ ، وأيضا كلمة ( فَبِتُّ ) تدلُّ على ما ذهبنا إليه ؛ لأنَّ البيات غالبا يكون ليلا ، وهذا البعوضُ -  ليلا -  يكون له دَوِيٌّ ، وطنينٌ .

ثم يذكرُ شاعرُنا زائرا يطلبُ البرودةَ والرطوبةَ ليلاً ، لِيُطْفِئَ حَرَّ السَّمِّ ، والسُّمومَ ، وهذا الزائرُ هو الحيَّات ، تتركُ آثارَها قُبَيْلَ الصُّبْحِ حول هذا الموردِ ، لأننا نعلمُ أن آثار الحيَّات لو كان قبل قدوم القطا ، والسَّراحين ، لذهبَ واندرسَ ، لأنَّ هذه الطيور والذئاب تَرِدُ هذا الماء في أوَّلِ الليلِ أو وَسَطِهِ ، ثم تأتي الحَيَّات قبيلَ الصبحِ ؛ فتبقى آثارُها واضِحَةً لم تُطْمَسْ .

وجاء ذكرُ المَزَاحِفِ على صيغةِ مُنْتَهى الجموع ، مما يُشْعِرُ بالكثرة والإزدحام ، وذلك لِتَلَذُّذِها بالبُرُوْدةِ والنَّداوَةِ ... والمُشَبَّه بِهِ – أيضاً – جاء على أوزان الكثرة ( فِعَال ) ( السِّيَاط ) .

فهذا الماءُ ، رُوَّادُهُ من كُلِّ سَبُعٍ ، وطيرٍ ، و زاحِفٍ ضار ، وقد شاركَهُنَّ شاعرُنا هذا المورد لِصرامَتِهِ وشجاعَتِهِ !

وقد قال العلامة السُّكَّري عند هذا البيت من القصيدة ( 3 / 1273 ) :

( هذا بيتُ القصيدَةِ ؛ ما أحسنَ ما وَصَفَ ! )



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد