الموتُ مُوْلَعٌ بالطَّيِّبِيْن !

mainThumb

10-05-2015 09:59 AM

لقد بَهَرني رثاءُ الشَّمَرْدلِ بن شريك اليربوعي لأخيه وائل ، جمالُها ، وصدقُها ، وعُذُوبَةُ ألفاظِها حتَّى قافيتُها هي مِسْكُ الختام !

وهو شاعرٌ اسلامي لا يعرفُهُ كثيرٌ من شُدَاةِ الأدب العربي ، إلا أنَّهُ أثْبَتَ شاعِرِيَّتَهُ ، ورسمَ عبقريَّتَهُ في هذه المَرْثاةِ ، وقد قال أبو عبيدة عنها :

( وقال يرثي أخاه وائلاً ، وهي من مختار المراثي ، وجيِّدِ شعرِهِ ) .

والعربُ تقول : المراثي أصدقُ الأشعار  ؛ لأنهم يقولونها وأكبادُهم تحترقُ ؛ فتخرجُ صادقةً ، جُبِلَتْ بدمِ القلب قبل دمعِ المآقي !

فلذلكَ عَدُّوا البدءَ بالمقدِّمة الطَّلَليَّة في المراثي من الجفاء ، فلا تكادُ تجدُ شاعرا الا واجتنبَ المقدِّمة الطلليَّة في مَرْثاتِهِ إلا ما فعلهُ الواحد او الاثنان فقط ، وقد لِيْمَا على ذلك  !

ومطلعُها :

لَعَمْرُكَ لَئِنْ غالَتْ أَخي دارُ فُرْقَةٍ
......وَآبَ إلينا سَيْفُهُ ، ورواحِلُهْ

ثم أخذ في وصف أخيه ، وذِكْرِ نعوتِه الرائعة ومنها إكرام الضيف في الشتاء وهو زمن اظهار الكرم والجود ؛ لِقِلَّة الزاد وجفاف الضِّرْعِ ، فلا يجودُ الا كريمٌ ، وذَكَرَ شجاعتَهُ وبسالتَه في الحرب ...

وهو على ذِكْرٍ لأخيه وائل كلما هبَّتْ ريحُ الجنوب ؛ لأنَّ أخاه مقبورٌ في منطقة بيشة جنوب مكة المكرمة ، وايضا تُذَكِّرُهُ أخاه حمامةٌ هتَّافةٌ فوق الغصون :

يُذَكِّرُني هَيْفُ الجنوبِ ، ومنتهى
..... مَسِيْرِ الصَّبَا رَمْسَاً عليه جَنَادِلُهْ
 
وهَتَّافَةٌ فوقَ الغُصُونِ تَفَجَّعَتْ
..... لِفَقْدِ حَمَامٍ أفردَتْها حبائِلُهْ .

مِنَ الوُرْقِ بالأصيافِ نَوَّاحَةَ الضُّحى
.....  إذا الغرقدُ التَفَّتْ عليهِ غَيَاطِلُهْ .

وتلْمَسُ في هذه الكلمات : ( يُذَكِّرُني ) ، و ( الصَّبَا ) ، و ( هَتَّافةٌ ) ، و ( تَفَجَّعَتْ ) ، ( نَوَّاحة ) ، و ( الضُّحى ) ، و ( التَفَّتْ ) الانقباضَ والمعاناة التي تُشْعِرُكَ بها الشَدَّة التي جَثَمَتْ على هذه الاسماء والأفعال في موطن الذِّكْرى !

وايضا التركيز على ما يَدُلُّ على الحرارة والحرقة من ذكر كلمة ( هَيْف ) ، و ( الأصياف ) ، و ( الضُّحى ) لأن هذا هو حقيقةُ جَوْفِه بعد فراق أخيه وائل .

وعند ذِكْرِ شجاعةِ أخيه ونُصْرَتِه لأفراد قبيلتِه نساءً ورجالاً ، رَسَمَ صورةً لِفَضاعَةِ وهول الأمر الذي لا يَثْبُتُ ولا يقومُ به الا الابطالُ ، وَبُهَمُ المعامعِ :
 
وَسَوْرَةُ أيدي القومِ إذ حُلَّتْ الحُبَا
..... حُبَا الشِّيْبِ ، واستعوى أخا الحلمِ جاهِلُهْ

وإذا استعبرتْ عُوْذُ النساءِ ، وَشَمَّرَتْ
...... مَآزِرَ يومٍ ما تُوارى خلاخِلُهْ .

فعند نزول الأمر وهولِهِ ، الذي يدفعُ اهلَ الحِلْمِ أن يخرجوا عن حِلْمِهم ، وذلك بِحَلِّ ( الحَبْوَة ) وهي رَمزُ الوقار والسكينة ، لأنه لا يفعل الحبوة الا هادٍ بعيدٌ عن الطيش ، وهو فِعْلُ كبار السن الشِّيْبان ، وهم أبعدُ الناس عن العجلة والتَّسَرُّعِ بسبب التجارب إلا أن هول الأمر جعلهم يَحُلُّون حُباهم ، فلا سكوتَ ولا وقار في هذا الأمر الفضيع .

والحبوة جاءت فيها الأمثال العربية ، منها :

( الاحتباءُ حيطانُ العرب ) ، أي : يعتمدون عليها ، ويستندون اليها ، لأنهم في الغالب لا يعرفون بيوت الحجر، فيضعون ظهورَهم اليها ، ويكتفون بالحبوة للراحة ، واستنادِ الظهر ، وهي لا تزال موجودة بين العرب اما يحتبون بحبلٍ او بضمِّ ايديهم الى سيقانهم ....

وقد حَرَّشَ الجاهلُ الحليمَ ( استعوى ) من العِواء وهو للذئب خاصة ،  فأصبحوا سواسيةً في ركوب الأمر وخوضه ، في هذا الموقف العصيب الذي يستهوي الحليمَ قبل الجاهل تجد أخي وائلاً مدافعا بطلاً هصورا في وجه أقرانه وأندادِه .

ثم يصفُ لنا الشمردل هذا الأمر وفضاعَتَهُ بأن تبكي منه المرأة العائذ وهي التي وضعت طفلا ومضى عليه سبعة أيام ، فطفلُها يعوذُ بها ، فتخرج باكيةً ، هاربةً  مشمِّرَةً مِئزَرَها ، باديا خِلْخالُها الذي في رجلها ، وهذا غاية الهول والأمر الجلل .

فوائل أخي يَسُدُّ في هذا الهول ، ويُرْجِعُ الشيءَ الى مكانه من غير خوف أو تردد ؛ كلُّ ذلك لِبَسالَتِه وقوتِه .

ثم ينتهي شاعرُنا الشَّمَرْدل الى قوله :

لَعَمْرُكَ إنَّ الموتَ مِنَّا لَمُوْلَعٌ
..... بِمَنْ كانَ يُرْجى نَفْعُهُ ونوافِلُهْ .

وهذا ما تقولُهُ العامة : ( أعمارُ الطَّيِّبين قصيرةٌ ) ، فالموتُ ينتقيهم من بين أوساط البشر ، ويرحلُ بهم دونَ استئذان !



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد