تحرير بعض المصطلحات الإسلامية في الجهاد و التوحيد (4) - تكافؤ القوى

mainThumb

24-08-2015 11:32 PM

إنّ مسألة التكافؤ – تكافؤ القوى في مواجهة العدو - مسألة شائكة في أدبيّات الجهاد المعاصر بسبب إهمال كثير من الجهاديين مكان العلماء ، و عدم سماع نداءاتهم . ذلك أن الجبهات المفتوحة على الأمة و تلك التي يفتحونها ابتداءً يعتبرون القتال فيها قتال دفع لا إذن فيه و لا اشتراط عدة و تكافؤ .
 
و قبل أن نخوض في مسالك الفريقين يحسن أن ننبّه إلى أن مسألة تقدير مدى التكافؤ هي من مسائل السياسة الشرعية ؛ بل إن سائر مسائل الجهاد هي كذلك . و إنّ مسائل السياسة الشّرعية و إن ثبتت مبادؤها في الأصل و أحكمت ؛ إلا أنها تخضع لتقدير المصالح و المفاسد إحجاماً أو إقداماً . و إن من يحضر هذا الضابط تنقشع من على أفقه سحب الحيرة و الالتباس ، و يضع كل نص في موضعه الصّحيح . و الحال أن الأمة اليوم في مرحلة ضعف و تفرق ، و أعداؤها في أوج قوتهم ؛ الأمر الذي أدى إلى أن يختلف المسلمون المعاصرون اختلافا شديدا في سبل التعامل مع تسلط الأعداء لانعدام وضوح الرؤية لدى الكثيرين في مفهوم التكافؤ و اعتباره ، مما يستدعي إلقاء الضوء أكثر على هذه القضية لعل به تذكير و رشاد . 
 
كما يجب التنبيه أن اعتبارات التكافؤ يدخل تحتها المواجهة السياسية كما المواجهة المسلحة ؛ إذ أثبتت أحداث جسام في السنين الأخيرة أن المواجهة السياسية غير المحسوبة ربما تكون مدمرة .
 
و تنبيه ثالث مهم ؛ هو أن الجهاد في فلسطين لا يخرج عن هذه القاعدة ، و إن أجمعت الأمة على القائمين عليه . 
ثم هذه نقولات عن بعض العلماء في الموضوع ؛ أسوقها لتعرف أدلتهم و أوجه الاستدلال بها راجياً أن تتضح الصورة لمن لم تتضح له من قبل ، أو يذّكر آخر فتنفعه الذّكرى .
 
قال الأستاذ الدكتور عبد الله قادري الأهدل : كان المسلمون في مبدأ الأمر مأمورين أن يقف الواحد منهم أمام عشرة من الكفار ، وإذا فر في هذه الحالة اعتبر آثما ، ثم خفف الله عنهم بعد ذلك ، فأجاز لهم الفرار من العدو إذا زاد عدده عن ضعفهم ، وأوجب على الواحد منهم الوقوف أمام الاثنين ، لقول الله تعالى ) :يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ( الأنفال 65-66 ) . 
 
و هذا نقل يكثر الجهاديون الاستدلال به عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن من أئمة الدعوة النجدية في عدم اشتراط التكافؤ من كتاب الدرر السّنية يليه رد الشيخ محمد بن عمر بازمول عليه : «جاء في الدرر السنيّة: جهاد الكفّار لا يشترط فيه تكافؤ العدد والعدّة، بل إذا قام المسلمون بما أمرهم الله به من جهاد عدوهم، بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها؛ فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين، ووهنهم عن لقاء العدو؛ لأن الله تبارك وتعالى أمر بفعل السبب، وأن لا يتوكل إلا على الله وحده.
 
وأيضا: لا تغترّوا بأهل الكفر وما أعطوه من القوّة والعدّة، فإنكم لا تقاتلون إلاّ بأعمالكم، فإن أصلحتموها وصلحت، وعلم الله منكم الصدق في معاملته، وإخلاص النية له، أعانكم عليهم،وأذلّهم، فإنهم عبيده ونواصيهم بيده، وهو الفعّال لما يريد» اهـ. و في الرد عليه قال بازمول : وللرد على هذه الشبهة أقول: 
 
لم يقل أحد من العلماء أن قتال الكفار لا يشترط له التكافؤ في العدد والعدة، إلا في جهاد الدفع في الحال الذي يدهم فيه العدو بلدهم ولا يملكون إلا دفعه حتى لا يتمكن منها، فإن لم يقدروا جاز لهم الصلح معه.
 
والدليل على اشتراط التكافؤ في العدد والعدة قول الله تبارك وتعالى: {الآَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. (الأنفال:  ٦٦).
 
ومن أحكام هذه الآية جواز التولي من الزحف إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعف عدد المسلمين.
 
ولما ينزل المسيح ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- ويقتل الدجال، «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ». ((صحيح مسلم)، حديث رقم: (٢٩٣٧)).
 
ومعلوم أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- سيحكم بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومعلوم أن يأجوج ومأجوج خروجهم على أهل الشام والمسلمين هو مداهمة عدو كافر للمسلمين، والله لم يأمر بمواجهتهم، مع أنه جهاد دفع؛ لأنه لا يدان لأحد بقتالهم، أي لا قدرة و لا طاقة، وهل يشك في إيمان عيسى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين؟
 
والقاعدة الشرعية: (القدرة مناط التكليف) تؤكد هذا المعنى، والله الموفق.
و قد قال العلّامة محمد بن عثيمين رحمه الله :  ( إنه في عصرنا الحاضر يتعذر القيام بالجهاد في سبيل الله بالسيف ونحوه لضعف المسلمين مادياً ومعنوياً وعدم إتيانهم بأسباب النصر الحقيقية ولأجل و بالعهود والمواثيق الدولية فلم يبق إلا الجهاد بالدعوة إلى الله على بصيرة ) . و قال : في موضع آخر : ( فالجهاد إذا كان فيه حرج، فالحرج مرفوع في الشريعة، فإن كان هناك قدرة على الجهاد فهو سهل بإذن الله عز وجل، وإن لم يُقدر على الجهاد فهو حرج مرفوع ) .
 
أما الدليل من السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" . فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل وإلى الصلاة، وبقي على هذا الأمر ثلاث عشرة سنة، ولم يؤمر بالجهاد مع شدة الإيذاء له عليه الصلاة والسلام، ولأتباعه من المؤمنين ، ولم يؤمر بالقتال؛ لأنهم لا يستطيعون، ولم يوجب الله عز وجل القتال إلا بعد أن صار للأمة الإسلامية دولة وقوة، قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ( . وهكذا نقول في الواقع الآن: لعدم قدرة المسلمين على القتال ومواجهة الكفار.
 
والأسلحة التي ذهب عصرها عند الكفار هي التي بأيدي المسلمين، وأقوى ما عند المسلمين من سلاح لا يساوي ما عند الكفار من سلاح وليس بشيء.
ولهذا من الحمق أن يقول قائل: إنه يجب على المسلمين الآن أن يقاتلوا الكفار.
 
 
وهذا القول تأباه حكمة الله عز وجل، ويأباه شرعه. والواجب أن يقوم المسلمون بما أمر الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) وأهم قوة نُعدها هو: الإيمان والتقوى؛ لأن المسلمين بالإيمان والتقوى سوف يقضون على الأهواء ومحبة الدنيا.
 
والصحابة- رضوان الله عليهم- حالهم بخلاف حال كثير من المسلمين اليوم، فالصحابة- رضي الله عنهم- يقاتلون لإعلاء كلمة الله ويكرهون الحياة في الذل .
فالواجب على المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا من قوة وأولها: الإيمان والتقوى.
 
ثم يلي قوة الإيمان والتقوى، أن يتسلح المسلمون ويتعلموا كما تعلّم غيرهم؛ لكن المسلمين لم يقوموا بما عليهم .
 
فالواجب في هذه الأزمنة الاستعداد بالإيمان والتقوى، وأن يُبذل الجهد، والشيء الذي لا يُقدر عليه فإننا غير مكلفين، ونستعين بالله - عز وجل- على هؤلاء الأعداء.
 
والله- عز وجل- قادر على هؤلاء الأعداء ولو شاء سبحانه لانتصر منهم كما قال تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ الله لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) ) ( مجموع الفتاوى 25 / 308) 
 
وقال رحمه الله (فالمهم أنه يجب على المسلمين الجهادُ حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ما يستطيعون به جهادَ الكفار، حتى ولا جهادَ مدافعةٍ في الواقع.
 
جهاد المهاجمة لا شك أنه الآن غير ممكن حتى يأتي الله- عز وجل - بأُمة واعيةٍ تستعد إيمانيًّا ونفسيًّا ثم عسكريًّا، أما ونحن على هذا الوضع، فلا يمكن أن نجاهد أعداءَنا ) . انتهى كلام ابن عثيمين رحمه الله .
 
    و للشيخ سيد إمام في مراجعاته كلام ثري عميق محكم في باب التكافؤ لم أحسن إلا أن أسوقه بتمامه لعظم فائدته :
 
فيا أيها المسلم لا تسمح لأحد من الجُهال ومدمني الشعارات أن يستفزك للدخول في صدام أنت غير مؤهل له وغير قادر عليه باسم الجهاد ويتلو عليك نصوص الوعيد لمن ترك الجهاد، فإن هذا شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم عند عدم القدرة.
 
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الهجرة وفي وقت الاستضعاف يطلب النصرة ويقول (من ينصرني حتى أبلغ عن ربي)، وذلك عملاً بما أرشده الله إليه في قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (الإسراء:80)، هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم مؤيدًا بالوحي عليه السلام. وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من عجز منهم عن التجهز للجهاد ما زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال لهم -كما قال تعالى- (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة:92).
 
واعلم أن الله سبحانه قد رتب نظام هذه الدنيا على الأخذ بالأسباب لا على خوارق العادات والتي قد تقع ولكنها ليست هي الأصل، والأخذ بالأسباب ينفع ما لم يعارضها القدر.
 
حفظ المسلمين من مقاصد الشريعة
 
المقصود من الجهاد إظهار الدين والتمكين لأهله كما قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39)، ومن أجل هذا يبذل المسلمون أنفسهم، وكان حفظ الدين مقدمًا على حفظ النفس في الضرورات الشرعية الخمس، وإنما تبذل النفوس في الجهاد حين يغلب على الظن النصر وإظهار الدين، أما إذا غلب على الظن هلاك النفوس والإضرار بالمسلمين في ما لا يعود بإظهار الدين من مواجهات مع أعدائه فيجب والحال كذلك المحافظة على المسلمين ولا يجوز تعريضهم هم أو ذراريهم لمهالك يمكن اجتنابها، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
 
1- جواز كتمان الإيمان مثل (مؤمن آل فرعون) وجواز اعتزال الكفار كـ(أصحاب الكهف) في حالة الاستضعاف الشديد، وهذان الخياران ليس فيهما شيء من إظهار الدين للعجز عن ذلك، كما قال الله تعالى (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ...) (غافر:28)، فشهد الله له بأنه مؤمن بالرغم من كتمانه إيمانه.
 
وقال تعالى (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ...) (الكهف:16)، وبالرغم من أن هؤلاء اختاروا العزلة إذ لم يمكنهم مواجهة قومهم المخالفين لهم فقد أثنى الله عليهم ووصفهم بأنهم (... فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف:13). فالخيار المناسب فكان الأولى المحافظة على نفوس المؤمنين، فأجاز الله كتمان الإيمان والتخفي به والعزلة قال هو بحسب الاستطاعة ولا إثم في ذلك.
 
2- إن الله سبحانه لم يوجب الجهاد ولا الولاء والبراء ولا تغيير المنكر باليد على المسلمين حال ضعفهم بمكة قبل الهجرة، لأن هذه الواجبات الثلاثة وإن كان فيها إظهار للدين فإنها كانت مضرة بهم ويمكن أن تزيد من إيذاء الكفار لهم، وكان المسلمون مستضعفين بمكة وفي حاجة إلى معونة أهاليهم المشركين في المعيشة والدفع عنهم، وحتى تحريم النكاح بين المسلمين والمشركين لم يشرع إلا بعد الهجرة وبعد صلح الحديبية كما في سورة الممتحنة في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ...) (الممتحنة:10)، فحرم الزواج من المشركين.
فلا يجوز القيام بهذه الواجبات الشرعية إذا عادت على المسلمين بالضرر، خاصة إذا كان لا يرجى منها إظهار الدين، وما غلب ضرره على نفعه فالصحيح منعه، والقاعدة (أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح). أما تحريم نكاح المشركين فثابت على كل حال إلا نكاح المسلم للكتابية.
 
3- إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الجهاد -بعد تشريعه- على من عجز عن الهجرة من المستضعفين بمكة إبقاءً على نفوسهم، ولم يوجبه كذلك على المهاجرين بالحبشة ولم يعودوا منها إلا عام فتح خبير (عام 7هـ) ولم يكن في جهاد هذين الفريقين مصلحة بل كان يضرهم فسقط عنهم، بل قد حض الله المسلمين على الجهاد لإنقاذ إخوانهم المستضعفين بمكة فقال تعالى (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء:75)، فالمستضعف يحتاج إلى من يجاهد لإنقاذه ونصرته لا أن يؤمر هو بالجهاد، وقد عذر الله هؤلاء في قوله تعالى (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء:98، 99).
 
4- عدم جواز الدفع بالمسلمين إلى مواجهة غير متكافئة مع أعدائهم إبقاء على المسلمين:
 
• ومن أجل هذا ورد التخفيف من وجوب ثبات المسلم لعشرة من الكفار إلى وجوب ثباته لاثنين كما في قوله تعالى «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا...» (الأنفال:66)، وإذا كان مقصود الجهاد مجرد الصدام مع الأعداء لما شرع هذا التخفيف، ولهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما «من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر» وعمم بعض العلماء العلة في التخفيف (وهي الضعف) من العدد إلى العدة فقالوا بجواز فرار المسلم من الكافر إذا كان سلاح المسلم أضعف.
 
• وأجاز الله للمسلمين الفرار (الانحياز) من مواجهة أعدائهم لأجل التحرف للقتال (تغـيير الخطط) أو التحيز إلى فئة (الاستعانة بغيرهم من المسلمين) في قوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شفقته على المسلمين يقول (أنا فئة لكل مسلم) وكانت جيوشه تقاتل في بلاد فارس والروم وهو بالمدينة، لينحاز إليه من شاء.
 
وحتى لا يتأثم مسلم من الفرار من مواجهة غير متكافئة مع العدو، وكان عمر رضي الله عنه من حرصه على المسلمين ينهى قادة جيوشه عن التسرع إلى القتال ويقول لهم (مسلم واحد أحب إلي من فتح مدينة من مدائن المشركين)، وقال عمر رضي الله عنه (وما يمنعني أن أؤمر سليطًا بن قيس إلا سرعته إلى القتال، فإن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث)، و(المكيث) هو المتأني، وكان (سليط) من أهل الخبرة بالحروب إلا أنه كانت فيه عجلة. نقلاً عن (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي.
 
• ومن تجنب المواجهة غير المتكافئة مع العدو انحياز خالد بن الوليد رضي الله عنه بالجيش في غزوة ( مؤتة ) وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه هذا فتحًا، وقال ابن حجر إن شراح الحديث استشكلوا كيف يكون الانسحاب فتحًا؟ وأن أفضل ما وقف عليه في ذلك هو ما ذكره ابن كثير في شرحه للبخاري رحمهم الله (إن الفتح كان إنقاذ جيش المسلمين من المهلكة أمام الروم) هذا حاصل كلامه من شرح كتاب المغازي بالبخاري، فكما أن النصر على العدو يسمى فتحًا، فكذلك عدم تعريض المسلمين للهلاك يسمى فتحًا أيضًا. فليس الصدام مع العدو هدفًا في ذاته بدون النظر في عواقبه، والانحياز هو الانسحاب في المصطلح المعاصر.
 
وفي غزوة مؤتة (عام 8هـ) بين المسلمين والروم كان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف والروم مئتي ألف، ونصب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء على التوالي على المسلمين وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة، فقتل الثلاثة جميعا، فاختار المسلمون خالدًا أميرًا عليهم فقرر الانحياز (الانسحاب) واحتال في ذلك لينسحب بأقل الخسائر الممكنة. قال أنس بن مالك رضي الله عنه (نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء مؤتة وعيناه تذرفان فقال (أخذ الراية زيد فقتل، ثم أخذها جعفر فقتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، ثم أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه) الحديث متفق عليه، فسمى خالدًا سيف الله، وسمى صنيعه فتحًا.
 
 
جهاد بلا جدوى
 
فالمحافظة على المسلمين وعدم الدفع بهم إلى خوض ما لا يعود على الدين بنفع أو ظهور من المواجهات المهلكة واجب، وهو الصواب، وهذا حكم باق إلى آخر الزمان بدليل نهي الله للمسيح عليه السلام ومن معه عن قتال يأجوج ومأجوج، وإذا تأملت في هذا المعنى ونظرت في ما تخوضه الجماعات الجهادية في بعض البلدان من مواجهات لا جدوى منها بل المفسدة فيها غالبة محققة، أدركت خطأ ما هم عليه.
 
وفي حديث غزوة (مؤتة) دليل على أن اختيار المسلم للخيار الشرعي والقرار المناسب لواقعه وظروفه يسمى فتحًا، وإن كان هذا الخيار هو الانحياز وترك مواجهة العدو كما فعل خالد رضي الله عنه، وإن كان هذا الخيار هو الصلح مع العدو فقد سمى الله صلح الحديبية فتحًا في قوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح:1)، وقوله تعالى (... لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ...) (الحديد:10)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه (إنكم تعدون الفتح فتح مكة وإنما الفتح هو الحديبية).
 
وإذا كان الله سبحانه قد شرع الجهاد وأوجبه على المسلمين بعد الهجرة وتوفر شروط نجاح الجهاد، فإن الله سبحانه قد أباح للمسلمين أيضًا عقد الصلح والمعاهدات عند الحاجة إليها. وقام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله فحارب وعاهد وصالح وسكت عن قوم بلا صلح ولا عهد كل هذا لتحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين. وقد قال تعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال:61)، فشرع الله ذلك للحاجة، أما النهي عن مسالمة الأعداء كالوارد في قوله تعالى (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ...) (محمد:35)، فهذا النهي مقيد بصفة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
 
أي في حال علو المسلمين وتمكنهم وقدرتهم على الحرب وغلبة الظن بالظفر لا يجوز مسالمة الأعداء لئلاً يفضي هذا إلى ترك الجهاد واستفحال خطر العدو، وهذا كله -وكما سبق- مع العلو والتمكين لا مع العجز والاستضعاف.
 
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة في الحديبية وتنازل للكفار في أمور لم يتحملها بعض الصحابة حتى قال عمر رضي الله عنه (ألسنا على الحق؟... أليسوا على الباطل؟... فلم نعطي الدنية في ديننا)؟ الحديث متفق عليه، وتنازل النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من أنه كانت له دولة مستقلة ومنعة ومعه جيش وبيعة على الموت (بيعة الرضوان) ومع كونه مؤيدًا بالوحي والملائكة عليهم السلام، ومع قوله صلى الله عليه وسلم -قبل ذلك عقب غزوة الأحزاب عام 4هـ- 
[٢٠١٥/٨/٢٣, ٠٠:٢٠] ماهر .جديد: (لا تغزوكم قريش بعد اليوم ولكن تغزوهم). فكان النبي صلى الله عليه وسلم موفقًا في الحرب والسلم يضع كل منهما في موضعه تشريعًا منه للمسلمين. وهذا الصلح الذي ضاق به بعض الصحابة رضي الله عنهم سماه الله فتحًا - كما سبق- لما ترتب عليه من شيوع الأمن وانتشار دعوة الإسلام. وعلى العكس من ذلك هناك من تراهم فاشلين في الحرب وفي السلم على السواء.
 
وقال : أمّا مع ضعف حال المسلمين فقد قال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في كتابه (السير الكبير): (يجوز أن يدفع المسلمون للمرتدين مالاً ليكفوا أذاهم عنهم في حال ضعف المسلمين ) ، وهذه هي الجزية المنعكسة .
 
فالمحافظة على ذات المسلمين وعدم تعريضهم للمهالك من غير طائل مقصد شرعي معتبر ينبغي مراعاته في كل من الحرب أو السلم على السواء وقد تعاضدت على ذلك الأدلة الصحيحة .
 
ها هنا انتهى كلام سيد إمام ، و به أنهي المقال . و الحمد لله رب العالمين .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد