درسٌ ملكي في الاخلاق

mainThumb

20-01-2016 04:03 PM

إن المتابع للاعلام الغربي في الوقت الحاضر يرى أن معظمه ‏يعيش حالة هستيريا، تنحى منحى التسرع، وتضرب بالقيم ‏الاخلاقية عرض الحائط، وتُوصِمُ الشعوب بالعديد من التهم، ‏وتؤلب الناس على بعضهم بحجة حرية الصحافة، والحرية ‏منها براء. وقد طال زيفها الأحياء والأموات.‏

 

وبالأمس القريب تطل علينا صحيفة شارل إيبدو الفرنسية ‏الساخرة وتصور لنا الطفل السوري إيلان- الذي استيقظ العالم ‏على صورته المؤلمة قبل عدة أشهر وهو ملقى على وجهه ‏جثةً هامدةً على شواطيء الألم والأمل سعياً مع والديه ‏للهروب من وجه آلة الحرب التي هدمت الإنسانية وأهلكت ‏الحرث والنسل في كل الأرض السورية- تصوره لنا برسمٍ ‏كاريكاتوراً مستفزٍ تتنبأ فيه أن هذا الطفل لو كبر وأصبح شاباً ‏لكان متحرشاً بالنساء. ‏

 

لقد ضربت الصحيفة الساخرة بفعلتها تلك عرض الحائط ‏مصيبة أهله الذين يستحلفون الأيام لتعدو مسرعةً - على ‏حساب أعمارهم - لينسوا مصيبتهم بطفلهم الفقيد، ولينسوا ما ‏كتبته الأقدار عليهم بفقدانه، وتنبش في دفاتر الذكريات لتعيد ‏تلك اللحظات المؤثرة والمؤلمة وتحييها في ذاكرتنا جميعاً ‏فتصيب إنسانيتنا في مقتل، ولا تكتفي بذلك بل وترسم صورة ‏موحشةً وقاسيةً لمستقبل هذا الطفل لو كبر وصار يافعاً، ‏وتضعه وتصنفه في قوائم المتحرشين بالنساء والمعتدين على ‏حسناوات أوروبا اللواتي صار ديدنهن اتهام اللاجئين ‏بالتحرش والاعتداء والاغتصاب.‏

 

ولكن ما جعلنا جميعاً نشعر بالفخر والاعتزاز هو أن تقوم ‏جلالة الملكة رانيا العبدالله المعظمة، والتي شاركت بالدفاع ‏عن صحيفة شارل إيبدو سابقاً، ووقفت إلى جانب جلالة الملك ‏عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم ضد التفجيرات التي انتهكت ‏حرمة الصحيفة، وضد الإدعاءات التي تم الصاقها بالإسلام ‏كدين للإرهاب والتطرف والعنف. تقوم اليوم بدورها كأمٍّ ‏وملكةٍ، وكأردنيةٍ مسلمةٍ، بالرد على نفس الصحيفة، وبنفس ‏الطريقة الكاريكاتورية، ليكون الجزاء من جنس العمل، ‏ولتظهر جلالتها الفرق بين مَنْ يحملون المُثُل الأخلاقية كمنهج ‏حياة وفي طريقة تقييمهم للأمور، وتعاملهم مع كل القضايا، ‏وبين مَنْ يتاجرون بكل شيء، حتى بالإنسان. ‏

 

تتضح الصورة للجميع وتكشف جلالتها اللثام عن المشهد، ‏فنعرف أن جلالتها عندما ذهبت بمعية جلالة الملك عبدالله إلى ‏باريس لتشارك بمسيرة شارل ايبدو، لم تعنيها قضية الصحيفة ‏ذاتها كثيراً بقدر ما كانت تعنيها القيم الأخلاقية والاعتداء على ‏المثل الإنسانية العليا، ولتقول لكل أؤلئك: كفى ظلماً وتخريباً ‏وتعدياً على إنسانية الإنسان، وكتم صوته، ورفض الآخر، ‏وإهانة وجوده. ‏

 

واليوم عندما تنهض جلالتها بواجبها الأخلاقي والإنساني ‏وترد على ذلك الرسم المشين برسمٍ يعج بالأخلاق وبقيمة ‏الإنسان الحقيقية القائمة على المعرفة والعلم والتفاؤل، لتقول ‏لنفس الصحيفة: كفى تعدياً على الإنسان، وكفى تلاعباً ‏بالمحرمات، وكفى تخريباً لعقول الناس والمساس والتلاعب ‏بوجودهم وآلامهم وآمالهم، وكفى انتهاكاً لكل المثل التي تقربنا ‏من بعضنا.‏

 

إن جلالة الملكة رانيا اليوم بوقفتها الشجاعة، والتي سبقت بها ‏الجميع، تتوارى خلف إنسانيتها وأمومتها ومُثُلها الأخلاقية ‏العليا، وموقعها كملكةٍ من الشرق العربي المسلم، تنفض ثوب ‏الدماثة السياسية والدبلوماسية، لتقول كلمتها الراسخة في ‏أعماق البعد الإخلاقي والإنساني، ولتلقن الصحيفة المتمردة ‏وأمثالها من المارقين في العمل الصحفي درساً في الأخلاق ‏مفاده: أننا لا يمكن أن نعيش على هذه الأرض إلاَّ بالأخلاق، ‏وأنه عندما نفكر إنسانياً بالأشياء سيكون نتاج أفكارنا قضايا ‏أخلاقية متفائلة، لا أن نتوقع من طفلٍ مات قبل عدة شهور أن ‏يكون منحرفاً عندما يكبر، لأن هذا دليلٌ على سوء الظن، ‏ودليلٌ على نقص الأخلاق وانعدامها في ذات الصحيفة ‏وتوجهاتها الإعلامية. ‏

 

أننا عندما ذهبنا إلى باريس- كأردنيين من خلال شخصية ‏جلالة الملك والملكة- ذهبنا لأن أخلاقنا دفعتنا لنكون مع ‏الرافضين لكل ما يسيء لإنسانية الإنسان وكرامته، وأننا اليوم ‏عندما نقف خلف جلالة الملكة رانيا في انتقادها لعمل ‏الصحيفة المنافي للأخلاق، فإننا نقف مع المُثُل نفسها التي ‏دافعنا عنها بالأمس هناك.‏

 

سَلِمَتْ يُمناكِ مليكتنا، وسَلِمَ مصدر إلهامنا الأول وراعي ‏مسيرتنا وقدوتنا جلالة الملك عبدالله الثاني الذي ما ترك محفلاً ‏دولياً إلاَّ وقادته أخلاقه العربية والإسلامية كي يدافع فيه عن ‏الإسلام بهمته السامية ودماثة أفعاله، حتى أظهرت لنا ‏التجارب أن هذا الحمى الهاشمي له في كل يوم صولة للدفاع ‏عن حياض العروبة والإسلام، لا بل والإنسانية جمعاء امتثالاً ‏لقوله تعالى ( كنتم خير أُمةٍ أُخرجتْ للناس تأمرون بالمعروف ‏وتنهون عن المنكر )‏



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد