خذيني إلى حتفي

mainThumb

17-08-2008 12:00 AM

ما من أمة تتغذى على الألم كما نفعل، نحن الأعراب المرميين على قارعة التاريخ. نغرف من الألم كما يغرف العطشان الذي هده التعب من نهر سلسبيل ونروح نلوك الألم ونمضغه ونتلذذ باحتسائه، ثم لا نلبث أن نجترّه ونعيد إنتاجه.

كأنما بالألم نحيا ومن شرايينه نرتشف نسغ الحياة، غير آبهين أنه في المآلات النهائية ليس أكثر من عنوان كبير لحتفنا المنشود الذي نذهب إليه بكربلائية عزّ نظيرها.

ولعل استعادة لمعجم الأغنية العربية بقديمها وجديدها تفصح كيف يفعل بنا الألم والعذاب والهجران فعله. إن أغنية لا تستدرّ البكاء والتمزق ليست أغنية قابلة للعيش، وسرعان ما تهجرها الأجيال وتنساها.

ألم يتحشرج صوت فريد الأطرش وهو يتأوه في أغنية "إيه فايدة قلبي": "أهوى حبك حتى لو يكون عذاب". ألم يصدح الرحابنة بقصيدة أبي نواس: "تعجبين من سقمي صحتي هي العجب"، كأنما الحب ها هنا صنو المرض والإعياء لا علامة للألق والحيوية، فـ"الغرام أنحله إذ أصاب مقتله" كما يقول الشاعر صفي الدين الحلي في وصف عاشق تتلذذ محبوبته في تعذيبه وتلويعه حتى إنه "لفرط البكا قد صار جلدا وأعظما، فلا عجب أن يمزج الدمع بالدِّما".

وكم من الاغنيات العربية تنطق بهذا اللسان، فنرى المحبوب يغتبط بالصدود والهجران، ويعد لحظات اللقاء السعيدة ضربا من الاستثناء الذي لا يرقى إلى أصل الأشياء ومستقرها الطبيعي. الطبيعي في المحبوبة أن تسهّره الليالي وتصيبه بالضناء. هكذا يستوي كائنا ممتلئا بالطعنات والعذاب المشتهى.

كأنما في فردوس الخسران تكمن فسحة العيش، وتتجلى متعة الحياة، وتأتلق النفوس.. وتبتهج.

هل ثمة نفس تبتهج بالأسى والالتياع؟

إنها النفس العربية المسكونة بضرورة إنتاج المأساة، في نزعة أقرب إلى "المازوشية" التي تأخذنا إلى الأديب النمساوي مازوش الذي كان يشعر بمتعة كبيرة حين يجد نفسه برفقة امراة فاتنة تجلده بالسياط وتمارس عليه فنونا من التعذيب والإذلال والتحقير.

وثمة عاشقات في مقتبل الحب يجدن لذة في مثل هذا السلوك، فتجدهن يبتدعن أساليب لإحراق قلب الحبيب والتحايل على مشاعره بالكذب أحيانا أو بالخداع أحايين أخرى، أو باجتراح ممارسات تنزع الثقة من روح الحبيب وتمزق إيمانه وتدفعه إلى اليأس والقنوط.

وفي الشعر العربي، قديمه وحديثه، ما يشكل قاعدة لهذه الظاهرة المتوحشة، فالشاعر لا يتشكل إلهامه إلا عبر المرور من بوابة الألم والهجر والإهمال، وفي ذلك يكمن سر سعادته، حيث يروح مفاعله الشعري يغلي وينتج اللذاذات السقيمة الناتجة عن علاقة إنسانية غير قويمة. ألم يقل عنترة العبسي: "لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم، ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا، لكنه راغب فيمن يعذبه، وليس يقبل لا لوما ولا عذلا"؟!

إن أصل الحب، لا أن يكون المحب راغبا فيمن يعذبه ويؤرقه ويسهده، بل أن يتأسس على الندية والتكافؤ والتواصل الوجداني والعاطفي والنفسي. ومن دون هذا التواصل يغدو الحوار معدوما والشغف مفصوما والقلب مهتاجا من غيرما طائل.

الأصل في الحب أن تتعامل مع كائن من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس، لا أن يتعامل المحب مع شبح لا يراه ولا يلتحم به ولا يذوب في الاشتباك مع حالاته كلها بأقصى تجلياتها وانفصامها وعدميتها وجنونها.

لذلك نحن أمة لا تمتلك ثقافة الحب، وبالتالي تفتقد إلى ذلك الإحساس العميق بالأمان. نحن على قلق كأن الريح تحتنا كما قال المتنبي، وبالتالي ننتج مسلكيات مشوهة ونطرز الأوهام والعذابات ونلثمها بأثيرية وسرور.

شاهدت قبل أيام فيلما أميركيا عنوانه "the valley of light" أو "وادي النور" وفيه مشهد أليم لموت فتى أبكم كان يصطاد السمك في بحيرة البلدة. المشهد على ما فيه من فجيعة لم يحتل من مساحة الفيلم إلا ركنا صغيرا، لكنه مكثف ومشغول بمهارة فنية وبصرية عالية. لا يعني ذلك أن رحيل الفتى لم يصب أهل القرية في صميم أعماقهم، ولم يجعل أبويه عاجزين عن الكلام، بل يعني أن ثمة ثقافة تحتفل بالحياة أكثر من احتفالها بالموت.

إننا، بخلاف ذلك تماما، نستعذب الموت وآلامه وتمزقات الفقد، ونربأ أن نبادل بهجات الحياة ألقا بألق، وتتلذذ المعشوقات برشق أرواحنا بحجارة الأذى.

فيا أيتها الحبيبة اللذيذة، يا من تضحكين لاهية والمحبُّ ينتحبُ: خذيني إلى حتفي.

" نقلا عن الغد "


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد