استعادة محمد القيسي

mainThumb

20-05-2024 11:08 PM

خلال الأشهر والأسابيع الدامية من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني، في قطاع غزّة خصوصاً كما في سائر فلسطين التاريخية؛ كان طبيعياً أن يُستذكر كبار الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر، فتستوي قصائد أمثال إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وهارون هاشم رشيد، مع فدوى طوقان وتوفيق زياد وراشد حسين وسميح القاسم ومحمود درويش.
وفي حدود ما أُتيح لهذه السطور أن تتابع، لعلّ غياب عدد آخر من شعراء كبار بدورهم، يصحّ أن يُلحظ؛ من زاوية أولى تخصّ أحقيتهم بالحضور في قلب المشهد الفلسطيني عموماً والغزاوي خصوصاً، ومن زاوية ثانية ذات صلة بالجماليات العليا المشتركة أو المتقاطعة التي طبعت الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر. وكان مشروعاً، من وجهة نظر هذه السطور بالطبع، أن تحضر أسماء مثل محمد القيسي وفواز عيد وخالد أبو خالد ومريد البرغوثي وعز الدين المناصرة وأحمد دحبور، ضمن مجموعة أولى متقاربة من حيث الجيل؛ أو وليد خازندار وزهير أبو شايب وطاهر رياض ويوسف عبد العزيز وغسان زقطان، ضمن مجموعة ثانية مجايلة.
لافت أن يغيب فواز عيد (1938-1999) صاحب المجموعتين المتميزتين «في شمسي دوار»، 1963؛ و»أعناق الجياد النافرة»، 1969؛ والذي كتب قصيدة من الطراز التالي، مثلاً: «وتبقى بيننا الوديانُ.. والأحزان.. والأسوارْ/ ويبقى السائلونَ الريحَ عن أنفاسنا.. عن لوننا../ وتظلّ دون وجوهكم أسفارْ/ سلاماً وليضئ خلجانكم لهبي/ لجرحِكُمُ النهارُ. ولي الطريقُ إلى مناهلكمْ/ أودّ.. أودّ لو تجتاحكم ريحي../ فأحضنكم/ وأعبر كلّ ودياني.. فلا أعيا.. وأحضنكم/ تظلّ حيالكم أسفارْ/ سلاماً.. واغرقي يا أرضهمْ بالنار».
بيد أنّ الغائب الأكبر قد يكون محمد القيسي (1944-2003)، الذي حمل في المنفى أعباء مماثلة لما انشغل به شعراء الداخل في الأرض المحتلة؛ من حيث تطوير شعريات فلسطينية ذات خصوصية جمالية منفردة ضمن المشهد الشعري العربي، في جانب أوّل؛ ثمّ الانتماء، من جانب ثانٍ، إلى حركة الحداثة والمساهمة في صناعتها على حدّ سواء. وكان القيسي هو الأغزر نتاجاً، ويوم رحيله سجلت لائحة إصداراه نحو 40 عملاً بين شعر وسرد ومقالات وسيرة وحوارات وأشعار للأطفال، فضلاً عن «الأعمال الشعرية» التي صدرت سنة 1999 في ثلاثة مجلدات.
صفة كبرى مركزية في شعر القيسي، سبق أن توقفت عندها هذه السطور، هي أنه كان شاعراً غنائياً جوّالاً بالمعنى الذي يشمل الكثير من سمات الشخصية التروبادورية، ليس لأنه كتب من مخيم الجلزون ودمشق وبيروت وعمّان والكويت والأغوار ورام الله ولندن وباريس… فحسب؛ بل كذلك، وجوهرياً ربما، لأنه حوّل قصيدته إلى ما يشبه ناياً فلسطينياً لا حدود للأسى والحزن والغربة في متتالياته النغمية. كما كان، ولعلّه يظلّ اليوم أيضاً، المسجِّل الأكثر التقاطاً لحسّ التراجيديا والرثاء في الموروث الفولكلوري الفلسطيني، والشاعر الأكثر ارتباطاً بشخصية الأمّ (حمدة، التي خلّدها في عمل كامل وأكثر من قصيدة)، لا بوصفها الحامل الرمزي للوطن والهوية والأرض فقط، بل لأنها أيضاً منبع الغناء ومصدر الأسطورة وخزين الشعر.
وهذا شاعر دائب التجريب، وتلك نزعة مفاجئة وربما نادرة أيضاً لدى شخصية شعرية غنائية عالية الانهماك في الشجن والمكابدة، ومن غير المألوف أن تعكف طويلاً على اختبار أشكال كتابية شتى، ومزاوجة القصيدة مع أنواع أدبية أخرى، وإدخال مقاطع شعرية قصيرة على هيئة حاشية أو هامش، والنصّ المدوّر؛ فضلاً عن عمود الخليل، وقصيدة النثر (مجموعته «اشتعالات عبد الله وأيّامه»، 1981)، رغم أنه ظلّ وفياً لخيار التفعيلة على امتداد 19 مجموعة.
والأرجح أنّ هذا الوفاء للتفعيلة يتجذر عميقاً في انحياز القيسي إلى الموسيقى، وهو الغنائي الجوّال التروبادوري، وله في ذلك تصريحات لا غمغمة في مدلولاتها: «ظلت القصيدة الغنائية متنفّسي ومزماري إلى الأشياء والناس»؛ وأيضاً: «أعتبر الموسيقى عنصراً أساسياً في البناء الشعري، وإذا كنّا قد مُنحنا مثل هذه النعمة، فكيف نتخلى عنها، مهما كانت اللغة مكثفة ومهما كان النصّ في قصيدة النثر يحفل بالشعرية ويحفل بالأجواء والمناخات الشعرية، إلا أنه يظلّ نصاً إبداعياً مختلفاً، وهذا لا يعني أنني ضدّ قصيدة النثر أو أنني أعيّن نفسي حارساً لشكل معيّن في الشعر».
وبمعزل عن وطأة التعميم، يظلّ القيسي من طراز الشعراء الذين قد يجازف المرء فيفترض أنّ شخصياته الشعرية، على تعددها، يمكن بالفعل أن تجتمع وتأتلف في قصيدة واحدة أقرب إلى البصمة الفارقة؛ كما في مستهلّ قصيدة مبكرة بعنوان «الصمت والأسى»، من مجموعته الأولى «راية في الريح»، 1968؛ ليس غريباً أنّ القيسي يستهلها باقتباس من الشاعر الإسباني لوركا: «ولو أنّ الطريق إليكِ ميسورُ/ لما وهنتْ خطايَ، وسُمّرتْ نظراتي اللهفى وراءَ البابْ/ ولا سَهُدتْ عيونكِ في انتظار زيارة الأحبابْ/ ولا ما بيننا حالَ العدِى والموتُ والسورُ/ يا دارْ، يا دارْ، لو عدنا كما كنّا/ لاطليكْ يا دارْ، بعد الشيدْ بالحنّا».
ويبقى أنّ جراح غزّة المفتوحة لم تكن وحدها دافع استعادة القيسي، هنا، لأنه هذه السنة يكون قد بلغ الثمانين؛ ولا أبالك أنّ المرء لا يسأم من مرافقة شجوه الفلسطيني، وشجونه وغنائه وتجواله…


(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد