لا تكن ضعيفا .. حارس سيلايجيتيش

mainThumb

03-04-2016 12:37 AM

خلال مسيرتي الصحافية التي تبلغ  أربعين عاما ، وإتسمت بالمعاناة والتحدي ، قابلت نحو ألف من كبار المسؤولين العرب ، ولم أشعر أن واحدا منهم أضاف لرصيدي المعرفي شيئا ، سوى خمسة منهم هم الراحل الملك الحسين الذي بهرني بدبلوماسيته وبراعته في  مخاطبة الآخر ، والراحل ياسر عرفات  البارع في تقدير الطرف الآخر ، والراحل صدام حسين  الصارم ، والمشير سوار الذهب لزهده وأدبه الجم .
وأستطيع الآن أن أضيف البعد الإسلامي  ، من خلال  إضافة  مسؤول رفيع  إسلامي  هو الرئيس البوسني السابق  حارس سيليجيتيش ، ذلك العلامة ليس في السياسة فقط ، بل في كافة العلوم من جغرافيا وتاريخ وأدب وفلسفة ، وفن التحليل السياسي القائم على النظرية العلمية ، وليس  ضرب الكلمات في كافة الإتجاهات.
إلتقيت بهذا الرجل خلال محاضرة نظمها منتدي الفكر العربي  ، وأبدع أيما إبداع في طرح افكاره ،  ونجح في إيصال رسائله  بإمتياز ، وكان  بارعا  في  كل حركاته وسكناته ، وهذه الميزة  لا تتوفر إلا في الشخص الذي تعب على نفسه  ، وجددها بإستمرار من خلال  القراءة والكتابة  والفهم ، وقد إستحق التدرج بالمناصب حتى وصل رئيسا لبلاده ، لأن البوسنة والهرسك تستحق رجلا مثله.
بعد المحاضرة التي أنهاها وهو بكامل  قيافته الحيوية - لأنه لم يجهد نفسه عناء الإحراج من قبل الحضور خشية ألا يكون قد قدم أفضل ما عنده ، ولأنه  قدم  محاضرة  تستحق أن يطلق عليها أم المحاضرات ، بسبب إكتمالها من حيث الموضوع والطرح وطريقة التقديم  وتفاعل الحضور الإيجابي – تحدثت معه  وكان مثالا يحتذى  في إحترام الآخر ، وسألته عدة أسئلة  خاصة  وقدمت له مجموعة من كتبي ، وقرأت في محياه  فرحة  لتلقيه هدية  عبارة عن مجموعة من الكتب .
إتسم  حديث الرئيس سيليجيتيش بالعقلانية المبنية على علم المنطق ، والمدعمة  بالحقائق الدامغة ، وظهر وهو  يسير في خط مستقيم غير متعرج  ، بمعنى أن الرجل  قد حفظ خارطة طريقه ، وجاء إلى الأردن وهو يعرف ما سيقول  ، ويعلم مسبقا أنه سيتحدث أمام النخبة ، ولذلك  كان خطابه متميزا من حيث الأسلوب والمضمون وحتى أسلوب الحديث ، إذ لم ألحظ عليه  أي حالة إرتباك .
تحدث الرجل عن تاريخ بلاده ، وأجزل الوصف ،  وإتهم المجتمع الدولي بخيانة  المثل والقيم والتعددية ، وخص بالذكر أوروبا الذي قال عنها أنها أرادت  إبادة المسلمين في البوسنة ، ولهذا لم يتدخلوا لصالحها وردع صربيا ، التي نفذت عدوانا صارخا على شعب البوسنة والهرسك ، وقاموا أيضا بحظر السلاح عن البوسنة ، لكنه  عدل المسار بفخر ،  أن صمود شعبه أبطل  النوايا الأوروبية وصد العدوان الصربي ، وإنتهى العدوان دون أن تخسر البوسنة بوصة واحدة من أراضيها  .
كان حديث الرجل في هذا الجانب غير مرتجف  ، ولم تشوبه شائبة  الإرتباك والخوف  من القوى التي هاجمها  بشفافية ، أن تتخذ منه موقفا معاديا ، وربما تصدر أمرا بمنعه من دخول أراضيها ،  كما يفعل  المسؤولون العرب الذين يرتجفون من سؤال صحافي  محرج للضيف الأجنبي  ، فهذا هو الرجل  الذي إحتل المنصب رقم واحد في بلاده يوما ، ومع ذلك تسلح  بحب وطنه  ، ووصّف المواقف بالصورة الصحيحة ، ولم يدر بخلده ردة فعل أحد .  
إتسم تحليل الرئيس سيلايجيتيش بالنبوءة التي نقرأ  إرهاصاتها اليوم ، ومنها أن تحالفا غربيا – إسلاميا  سيظهر في آسيا ، وأن أمريكا ستتقدم أوروبا  التي ستصل متاخرة وتصبح في الظل ، كما تحدث عن حرب عالمية ثالثة ستنفجر لا حقا.
صحيح أنه  مسلم أوروربي ، وهذا لم يمنعه من متابعة في مجريات الأمور في المشرق العربي ، وإتضح أنه على علم بالجزئيات الدقيقة ، ولديه المقدرة على ربط ما جرى في بلاده  ، مع ما يجري حاليا في الشرق وخاصة في العراق وسوريا ، وقد حذر السوريين  والعراقيين معا من مغبة القبول  بالتقسيم ، لأنه سيجر مصائب وحروبا صغيرة إلى الأبد.
كحكيم  فتح الله عليه   ، ظهر الرئيس سيلايجيتيش ، عندما تحدث عن واقع العالم المتحضر وغير المتحضر ، وأسهب في الحديث عن الأزمة العالمية ووضع لها حلولا ، وهي السير على نهج التسامح العميق والتعددية بمفهومها الصحيح وهو العيش معا ، وليس إلى جانب بعض كما هو الحال في أوروبا ، كما دعا إلى الحوار الجاد الموضوعي الهادف ، وأن نتعايش مع الزمن  بشكل صحيح ، وضبط خطواتنا لتتواءم مع حركة الزمن ، وأن نقبل الإختلاف والنقد  والرأي الآخر، لأن ذلك سيساعدنا على تصحيح مسارنا ، فنحن كما قال في سفينة واحدة ، وهذا برأيي  أصدق تعبير عن الحضارة الإسلامية  .
كان الرئيس سيلايجيتش  صريحا شفاف عندما  أعلن أنه علماني ، لكنه لم يفك إرتباطه  بالحضارة الإسلامية ، ولم يتبرا من دينه ، ولذلك إستحق بجدارة أن يكون داعية إسلاميا  فاهما لأصول دينه راقيا في فكره وطرحه ، وهو هنا يختلف عن الآخرين الذين ما إن  تحدثوا بلسان اجنبي ،  حتى يسارعوا في الإعلان عن تنصلهم من دينهم وتخليهم عن عقيدتهم ، وقد قال لا فض فوه أن عودة الناس اليوم إلى المنابع الأساسية للإسلام  ، لا يخدم المسلمين فقط ويصحح مسارهم  ، بل يخدم المسيحية واليهودية ،  والتي إبتعدت كل منها عن منابعها التوحيدية الأصيلة  ، وأن في هذا خلاصنا جميعا.
تحدث فخامة الرئيس سيلايجيتش عن زوايا تاريخية  ، قل من يجرؤ على الحديث عنها ، وهي  أن المسلمين  إستقبلوا اليهود الهاربين من محاكم التفتيش في إسبانيا في القرن السادس عشر ، وأن المسلمين البوسنيين على سبيل المثال قد إستقبلوهم بحفاوة  ، وفسحوا لهم المجال للعيش بين ظهرانيهم  حتى  ظهور النازية  ،  وأن الحكومة البوسنية آنذاك  ، بعثت بمذكرات لحكومة النازي هتلر  تدافع فيها عن يهود.
كما أوضح ،  أن هناك من حاول جر  الإمبراطور العثماني سليم الأول ،  للإنتقام والأخذ بالثأر من إسبانيا وملكها بقتل المسيحيين  ، وقد طلب فتوى من مفتي الإمبراطوية الذي أفاده أن الله سبحانه وتعالى  يمنعه من ذلك ، لأن المجرم فقط هو الذي يقتل .
آخر إبداعات الرئيس سيلايجيتش نظرية  أهملناها نحن في العالمين العرب والإسلامي ، وهي :"لا تكن ضعيفا " ، وقد أسهب في الشرح  ، محذرا من الظهور بمظهر الضعيف لأنهم " سيأتون إلينا ويأكلوننا  ويسيطروا على  ثرواتنا "، تماما كما هو حاصل هذه الأيام  في الوطن العربي  الذي قاده ضعفه رغم إمكانياته إلى الهلاك ، وأن  من إستفاد من ضعفنا لم يكفه  ما فعله بنا  من خلال معاهدة سايكس – بيكو ، ولذلك نراه  وقد أدخلنا  في مشروع أشد خطورة علينا  وتنكيلا بنا  ، وهو مشروع الشرق الأوسط الأمريكي الكبير  وشبيهه الإسرائيلي وثيقة كيفونيم ، اللذان سيقسمان المقسم ويجزئان المجزأ  .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد