المؤسسة العسكرية التركية، كما هو معروف، أمسكت بزمام الحكم في تركيا من وراء الستار والكواليس منذ عهد الرئيس مصطفى كمال أتاتورك، وحتى أواخر القرن العشرين، حيث كانت الحكومات منذ وصول أتاتورك إلى السلطة وحتى وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى سدة الحكم في تركيا، حكومات أقرب إلى الحكومات الصورية التي تنفذ أوامر السلطات العسكرية الممسكة بزمام الأمور في الدولة. وأي خروج عن الخط الذي انتهجه الجيش التركي، كان دائما يواجه بانقلاب عسكري، ينتهي بإنهاء الحكم المدني في الدولة، وإعدام رئيس الوزراء أو إلقاء السياسيين في السجون، كما حصل مع رئيس وزراء تركيا عدنان مندريس الذي تم إعدامه بعيد الانقلاب عليه، أو إلزام الرئيس بالاستقالة من خلال توجيه خطاب له، وتعليق العمل بالدستور القائم، كما في حالة الرئيس سليمان ديميريل الذي فضل الاستقالة من منصبه على المقاومة، أو الحرمان من ممارسة العمل السياسي للعديد من السنوات، كما حصل مع نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه الإسلامي، أوحل الأحزاب المدنية، وبعد ذلك العودة إلى ممارسة العمل الديمقراطي بالطريقة التي تناسب ما يصدره العسكر من دستور وقوانين وأنظمة جديدة.
رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، والزعيم القوي في حزب العدالة والتنمية الحاكم، شكل حالة استثنائية في تركيا، يتطلب الأمر دراستها وتمحيصها والتمعن فيها كثيرا، من قبل الباحثين والدارسين المهتمين بشئون السياسة والحكم، فمما هو معروف أن الرجل خاض غمار العمل السياسي الذي أوصله إلى قمة المناصب في تركيا، ابتداء من رئاسة بلدية اسطنبول، مرورا برئاسة الوزراء التركية أكثر من مرة، وانتهاء باالرئاسة التركية التي وصل إليها بانتخابات رئاسية شعبية مباشرة.
عندما انتخب أردوعان رئيسا لبلدية أسطنبول، كان همه الأول، كيفية تحويل المدينة إلى مدينة نظيفة سياحية خضراء جميلة جعلت منها وجهة للكثير من الزوار حول العالم، ما زاد من شعبية الرجل بدرجة كبيرة، كان من نتائجها خوض غمار الانتخابت التركية التي أوصلت حزبه برئاسته، حزب العدالة والتنمية إلى تولي دفة القيادة التركية والحكم فيها، بأغلبية مريحة، ما زالت متواصلة حتى الآن.
لم يحارب أردوغان المؤسسة العسكرية القوية في تركيا، بل عمل على تقوية قاعدة حزبه الانتخابية في كافة الأراضي التركية، من خلال خلق فرص العمل، وتطوير المؤسسة العسكرية التركية نفسها، والعمل على الانتقال بالاقتصاد التركي إلى مصاف الدول الاقتصادية الكبيرة، وسداد ديون تركيا، وتحويلها من دولة مدينة إلى دائنة، وجعل منها دولة متطورا اقتصادها، مسموعة كلمتها، قويا جيشها، وزاد دخل الفرد فيها بدرجة كبيرة.
لقد تمكن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، بالأغلبية المريحة التي امتلكها ويمتلكها في البرلمان من سن قوانين وأنظمة جديدة مكنته من الحد من نفوذ الجيش وإخضاعه للسلطة المدنية، وهي سابقة في تاريخ تركيا الحديث، لم يتمكن غير أردوغان من تنفيذها. لم يجاهر الرجل بمحاربة الجيش، وكان ديدنه أنه يسير بتركيا العلمانية على النهج الذي اختطه مصطفى كمال أتاتورك في نفس الوقت على الذي عمل تثبيت دعائم الديمقراطية التي تناسب الدولة التركية، فكان أن أكسبه وحزبه شعبية جارفة، قلما يمتلكها أي من الأحزاب التي تصل إلى سدة الحكم في بلادها.
وها هو في الانقلاب الأخير الذي جرى بالأمس، لم يعلن الاستسلام، ولم يبكي على تمكن الانقلابيين من الإعلان عن الإمساك بالسلطة ولم يرحل، ولم يغادر بلده، بل لجأ إلى الشعب صاحب الكلمة الفصل في وصوله وحزبه إلى السلطة، وخاطبهم بأن حكمهم مهدد من قبل العسكر، وأن عليهم، إفشال المخطط العسكري بالانقلاب على حكمه، وهو ما لقي تجاوبا من الشعب الذي انتخبه وحزبه لقيادة تركيا، فنزلوا إلى الشوارع وأحبطوا مخططا، ربما كان أدى إلى مزيد من الفوضى والدمار وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. أردوغان ظاهرة سياسية صحية، يجب دراستها مرات ومرات، أفشلت حكم العسكر التركي، الذي بقي يقود تركيا لحوالي قرن من الزمن، ولم ينته إلا في عهد أردوغان ومن المؤكد أن فشل الانقلاب سيعزز من نفوذه ونفوذ حزبه على الأقل في المستقبل القريب،، فهل ولى حكم الجنرالات والعسكر، وزمن الانقلابات في تركيا إلى غير رجعة؟
كاتب ومحلل سياسي