فجأة، انقطع البث. خبرة سنوات الربيع تشير إلى أنّ انقطاع البث المفاجئ هو واحد من ثلاثة احتمالات: الرئيس سيلقي كلمة في مكان ما، حادث جلل وقع فيه قتلى ومصابون، انتقال شخصية عامة إلى جوار ربها.
وحيث إن الرئيس لم يكن سيلقي كلمة، والمطلعون على أحداث العالم على «تويتر» وغيره أفادوا بأن حدثاً جللاً لم يقع، والشريط الخبري لا يشير إلى أن أحدهم قد انتقل إلى مرحلة الراحة الأبدية، فقد دقت القلوب واتسعت العيون وتسمرت الأبدان على الكنبات انتظاراً لما سيسفر عنه إعلان المذيعة بأن القنوات ستنضم لبعضها لنقل مؤتمر مهم من الخارج. فظهر رجل ذو ملامح غربية وهو متهلل الوجه واستهل كلمته بالإنكليزية بـ «يسرني» فتنفس الجميع الصعداء. ثم أكمل «أن أعلن أن الحكومة المصرية والبنك المركزي المصري وفريق صندوق النقد الدولي توصلوا إلى اتفاق على مستوى الخبراء يتيح لمصر 8.5966 بليون وحدة حقوق سحب خاصة (422 في المئة من حصتها في الصندوق أو حوالى 12 بليون دولار أميركي) لدعم برنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادي من خلال تسهيل الصندوق الممدد الذي يغطي ثلاث سنوات». انفرجت الأسارير حيث التعبير عن السرور مع حصول البلاد على مبلغ ضخم من المال وكلمات مثل «دعم» و «إصلاح» و «تسهيل» يُبشّر خيراً.
هذا الاتفاق دارت حوله حمم سجالية، وتطايرت بسببه شظايا نقاش، وضلع القاصي والداني في إفتاءات تنظيرية حول أثره وجدواه، وخطره ومداه، وكذلك حتميته وانعدام بدائله فكان «ضربة معلم» إعلامية.
الضربة هدفها رسم صورة قوامها المكاشفة والمصارحة، وإثبات بالحجة والبرهان أن ما يجري خلف الأبواب المغلقة من نقاشات، نتائجه معروضة للجميع من دون مزايدات. والأهم من ذلك تلك الصبغة الاحتفالية التي جعلت المشاهد يشعر بأن ما حدث من اتفاق وما ستتلقاه البلاد من بلايين إنما هو مدعاة الطمأنينة والابتهاج. هذه المشاعر الإيجابية المولدة من رحم قرض الصندوق هي في الأغلب تم تحضيرها بدقة وتوليفها بحرص شديد ضمن خطة إعلامية. وهي ليست بالضرورة مشاعر كاذبة أو صادقة، والخطة على الأرجح لا تهدف إلى التدليس والتمويه، لكنها تبقى في نهاية الأمر دليلاً دامغاً على أن الشاشات الإخبارية قادرة على خلق شعور عام وتوجيه الرأي العام - ولو إلى حين - لتحقيق أغراض سياسية أو اجتماعية بعينها.
وتلاه مؤتمر آخر محلي أجاب خلاله مسؤولون ضليعون في مفاوضات القرض عن الأسئلة الصحافية، على الهواء مباشرة ليؤكد أنّ القرض ليس سيئاً، أو ليس فيه ما يود النظام إخفاءه. صحيح أن جانباً من المشاهدين يظلون متمسكين برؤاهم الاقتصادية حيث القرض يعني ديناً في رقاب الأبناء والأحفاد، ويعكس تعثراً اقتصادياً غير مأمون العواقب، لكنّ القاعدة العريضة خرجت من إعلان حصول مصر على القرض على الهواء مباشرة وهي مرتاحة البال، ولو إلى حين.