وسائل النقل التاريخية الجديدة

mainThumb

28-08-2019 10:13 PM

 يشبه الكثيرون المدينة بالكائن الحي، ومن هذا المنظور تعد شبكة الشوارع في المدينة الهيكل العظمي الذي تبني المدينة نفسها حوله! تنمو وتتمدد وتتطور وتضمر أحياناً أخرى حول هذا الفراغ الذي تضخ المدينة نفسها خلاله كل يوم.

 
 الشارع هو الفراغ الحر الذي يستوعب الجميع ولا يستثني أحداً، وهو الامتداد الفراغي لنا فمن دونه تغدو بيوتنا وأماكن عملنا جزراً معزولة وكيانات غير قابلة للحياة. لقد لعبت الشوارع وما تزال دوراً أساسيا في حياة المدن وبالتالي في حياة السكان حيث تستوعب معظم النشاطات العامة وتلونها بلونها تبعاً للمكان والزمان والنشاط فهي مكان للقاء والتعاون والتجارة والسفر والتجمع لمناقشة القضايا العامة، تساهم في نجاح هذه الأحداث أو فشلها تبعاً لكفاءتها في احتضان هذه النشاطات، لتنعكس في المحصلة على الحياة الخاصة لساكني المدينة وروادها.
 
  إن الشارع لم يكن حتى وقت قريب فراغاً محتكراً على المركبات، وما نراه اليوم من تغول السيارات على شريان الحياة الحضري في المدينة هو تحول للأحداث مرتبط باختراع السيارة وتكريسها في أذهان الناس بوصفها أداة الانتقال الوحيدة –تقريباً-داخل المدينة.
 
  إن الاطلاع على صور المدن قبل تأثرها بالسيارة يوضح جلياً  بأن مدننا تفقد إنسانيتها يوماً بعد يوم لصالح المركبات من خلال التوسع في إنشاء الطرق السريعة التي تخترق المدن والحاجة المستمرة لزيادة عرض الطرقات مع تزايد الضغط المروري عليها وتأمين مساحات إضافية يومياً كساحات لاصطفاف السيارات لتواكب الازدياد المرعب في عدد المركبات وكل هذه المساحات تقتطع من مساحة المدينة لصالح المركبات بدل أن تستغل لخدمة سكان المدينة وتأمين متنفسات جديدة لهم تواكب احتياجاتهم والزيادة المستمرة في أعدادهم.
 
 حين تسير في العاصمة عمان اليوم، لن يفوتك أن تلاحظ كمية الجسور والأنفاق والطرق السريعة المخصصة لاستخدام السيارة، فيما تسعى باقي المدن لتحذو حذوها في تأمين أعلى درجات الراحة للمركبات على حساب المشاة. وبمعنى آخر فإن مدننا تتحول تدريجياً إلى مدن صديقة للسيارات وعدوّه للمشاة. أما الأرصفة الخجولة المتهالكة -إن وجدت -فهي متقطعة ومليئة بالعوائق وبالتالي غير آمنة وغير صالحة للمشي، في تكريس واضح لنهج تهميش المشاة داخل مدينتهم وتهميش ممارسة المشي كأحد أهم وسائل الانتقال تاريخياً.
 
  حين نطلع على التجارب العالمية في هذا المجال نجد أننا  الأجدر بتبني سياسة تأمين الأرصفة والممرات المكرسة للمشاة وتأمين مسارب خاصة لراكبي الدراجات الهوائية حيث أن الطقس المعتدل واستواء العديد من مدننا هي ميزات أساسية لنجاح هذه الممارسات ولكن ما الذي جعل الكثير من المدن العالمية المعروفة بشوارعها العريضة البراقة تعود إلى تبني سياسات أقل ما يقال عنها بأنها تاريخية مثل المشي واستخدام الدراجات الهوائية؟
 
  إن تراجع جودة الهواء في العديد من المدن العالمية وارتفاع فاتورة المحروقات والطلب المتزايد على إنشاء الطرق الجديدة والحاجة لتأمين مساحات إضافية من الجزر الإسفلتية الجرداء كمواقف للسيارات ، هذه المشاكل المتفاقمة مجتمعة ناهيك عما يوفره المشي وركوب الدراجات الهوائية من رياضة يومية تحافظ على صحة السكان وتنعكس بشكل مباشر على البيئة وعلى فاتورة الرعاية الصحية ساهمت كلها في تبني هذه المدن لسياسة تشجيع  المشي واستخدام الدراجات الهوائية داخل المدينة.
 
ولكي تفهم الأمور في نصابها فإن الفكرة هنا تكمن في الوصول إلى حالة من الاتزان بين مجموعة من وسائل الانتقال داخل المدينة بحيث تكون الخيارات متاحة لسكان المدينة من خلال توفير البنية التحتية لخيارات تنقل أخرى غير السيارات، مما يتيح للناس اختيار الوسيلة المناسبة للانتقال بما يناسبهم بدل التركيز على خيار واحد مكلف لجميع الأطراف ألا وهو السيارة. ويلعب النقل العام دوراً أساسياً في هذه المعادلة حيث تستطيع وسيلة النقل العام نقل أضعاف العدد الذي تنقله السيارة الواحدة إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن نسبة لا يستهان بها من السيارات تنقل بداخلها شخصاً واحد فقط .
 
فإن كان الانتقال داخل المدينة بالمشي وركوب الدراجة الهوائية لا يناسب الجميع فإن بعض الشرائح الواسعة داخل مجتمعنا والمتمثلة في مئات الآلاف من طلاب المدارس والجامعات يستحقون أن نؤمن لهم البنية التحتية لممارسة الانتقال والرياضة اليومية دون خطر على سلامتهم ودون كلف إضافية. وعليه فإنني أدعو كافة البلديات – كونها المعنية بالطرق داخل المدن - إلى استشراف مستقبل آمن وصحي للسكان عامة ولفئة الشباب خاصة كما أدعوهم الى الاطلاع على تجارب المدن التي قطعت شوطا كبيرا في إعادة هيكلة نفسها بما يخدم سكانها وزوارها. فليس من المنطقي الاستمرار في سياسات التوسع في بناء الأنفاق والجسور والطرق السريعة بما يستنزف مواردنا وإنسانيتنا فلا أقل من أخذ هذه التوجهات بعين الاعتبار في تنظيم وتصميم الأحياء الجديدة. إن من حق المشاة أن تعود ملكية الشوارع لهم.
 
وخلاصة القول فإن إتاحة الفرصة للمشي واستخدام الدراجات الهوائية من خلال توفير البنية التحتية المناسبة لها داخل مدننا ليس ترفاً فكرياً أو تشبهاً ببعض المدن المترفة لكنه خيار إنساني وصحي واقتصادي ينعكس بشكل مباشر على كلفة النقل اليومية التي يتحملها المواطن والدولة وهو بحاجه لوقفة لمراجعة سياسة التوسع المهولة في إنشاء المزيد من الأنفاق والجسور وتأمين ساحات اصطفاف للسيارات مما ينعكس على جودة الهواء في المدن والتلوث الضوضائي واستنزاف العديد من الموارد وتزايد كلفة فاتورة الطاقة وتزايد ضحايا حوادث السيارات. ناهيك عن توفير تجربة حياتيه مختلفة لمن يرغبون بإعادة اكتشاف شكل مدينتهم بوسائل انتقال جديدة وتاريخية في ذات الوقت.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد