لماذا تهتف الجموع دائما ايران برا برا ؟

mainThumb

30-08-2022 01:54 PM

خلال تغطيتي للاحداث اللبنانية والعراقية على مدى سنوات ، وعند كل ازمة سياسية وثورة شعبية ، كان يلفتني ترداد الناس في الساحات والتظاهرات والاعتصامات، صرخة واحدة مشتركة: (عاصمتنا) حرة حرة... ايران برا برا. وهي الصرخة التي لفتني أيضاً أنها لم تطلق يوما ضد اي دولة عربية. ما عدا خطابات العداء المنظمة والمحضرة والتي لا تعبر عن مواقف أطراف سياسية معينة، لا عن رأي الناس العفوي أو نبضهم .

حملت الهتاف وبحثت في جوانبه المجتمعية والسياسية الشعبية

فاذا اخذنا ساحتي العراق ولبنان مثلا ، نجد ان الدول العربية تاريخياً وتقليدياً، عملت على نسج علاقات شاملة اوسع بكثير من التبادل المؤسساتي والحكومي والتجاري، الذي يمثل بمجمله شكلاً من اشكال العلاقات الرسمية بين الدول. لا بل ارتقت الى مفهوم تجسير العلاقات بين مجتمعات وشعوب، وهو الذي يظل جوهر اي انماء مستدام . وهو ما يصير فوق معايير العلاقات البينية بين دولتين ، ولهذا صرخت الجموع في العراق وبيروت ايران برا برا .... ولم تهتف يوما الخليج او العرب برا برا ...

اذا ما اخذنا التجربة الايرانية في ساحتي لبنان والعراق والقائمة على مبدأ تصدير الجيوبولتيك الشيعي القائم على حالة براغماتية لتوظيف المجتمعات الشيعية في خدمة اهدافها عبر التخريب الاستراتيجي والتدمير الممنهج للمجتمعات .

فقامت هنا بالاكتفاء بنسج علاقات مع عناصر غير دولتية تابعة لها، اي عبر فصائل الحشد في بغداد وحزب الله في بيروت، بما ان السلطة والسياسة اضافة الى الجغرافيا تعتبر عناصر جيوسياسية تخدم صلب البعد الجيوبولتيكي الايراني.

في التجربتين علاقة ايران لم تكن مع الدولة بل مع قوى شبه دولتية. ولم تكن مع المجتمع الذي يمثل وجدان هذا البلد. بل مع فئة، حاولت غالباً نقلها من موقع فكري إلى موقع آخر، بحيث تصير ضد الوجدان التاريخي والمؤسس للبلد نفسه. وهو ما جعل هذه الفئة في صراع مع باقي شعبها، ومع تاريخها ومجتمعها...

وحتى التبادل على كافة الصعد كان حصرا مع هؤلاء مما انتج حال رفض اجتماعية واسعة جسدتها كلمات "اللا" او الرفض التي تعبر عن سير باتجاه الوعي الفردي الذي تحول لاحقا الى وعي مجتمعي كبير .

اذا ما اخذنا بعض المؤشرات الاجتماعية التي تساهم في تعزيز امن المجتمعات كالطبابة والتعليم، نجد في الارقام في بيروت مثلا مئات المدارس ، عشرات المستشفيات ، مئات المنح ، مئات المشاريع الانمائية والاعمارية .

في العراق كذلك حيث الاستثمارات الخدماتية والتعليمية والطبية، التي عززت الدول العربية عبرها، التنمية والاغاثات الانسانية وقدمت الاف المنح اضافة الى دعم الطبابة وتقديم مساعدات انسانية منها المعلن ومنها غير المعلن. في حين انه ومنذ اسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين في عام ٢٠٠٣ وحتى اليوم لم تبن ايران مستشفى او جامعة او مؤسسة واحدة تعنى بكل الشعب العراقي. ما خلا وحدات مبتعثة من طهران لأدلجة المواطنين والاطفال خصوصاً .

نموجان مختلفان كل الاختلاف. الاول قائم على نهوض اجتماعي واقتصادي وتنموي. والثاني قائم على غلبة ايديولوجية تقسم المجتمع عبر تغذية الغرائز الطائفية لتدمير كل مكونات الهوية الوطنية .

هذا النموذج العربي يشبه الى حد كبير واحدة من العقائد الصينية الشهيرة: " نصر من دون قتال ". والتي طورت عبر السنين لتكون في جزء كبير منها ، نصراً قائماً على الاستثمار الديبلوماسي والسياسي والانساني والثقافي من دون قتال او حروب او اراقة دماء. حتى وان كانت هذه العقيدة قابلة للكسر عند الضرورة التي تتعلق بالامن القومي. الا انها اثبتت نجاحها على مدى عقود فحولت الصين الى قطب اساسي يصعب تجاوزه .

هي مقاربة تنطبق تماما على النموذج العربي في علاقاته وسياساته الاقليمية منذ ما قبل الصعود الايراني الا ان نتائجه باتت أكثر وضوحاً بعد توغل هذا اللانموذج في ساحات المنطقة. واقول هنا اللانموذج لان النموذج في معناه الفلسفي والعلمي فيه الكثير من المنطق وفي الحالة الايرانية فيه الكثير من اللامنطق .

في النهاية هناك مشروعان متناقضان كلياً في النظرية وفي التطبيق: مشروع تصدير "ثورة" بدأت دموية ولا تزال ... ومشروع انفتاح إنساني تنموي شامل.

وهو ما نتجت عنه ردتا فعل متناقضتان بالكامل: بين الصرخة الشعبية بوجه منتج "الثورة" المصدرة: برا برا... وبين أن تتحول مدن الخليج مدناً كوزموليتية لكل العرب، بل لكل العالم.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد