العراق بين «كان» و«أصبح»

mainThumb

05-09-2022 02:05 PM

يقول ابن خلدون في تاريخه: «أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده». من يطالع أحوال العراق اليوم، ليقارنها بالماضي، لن يفوته أن يستحضر رثاء أبي البقاء الرندي لسقوط الأندلس:
لكل شيء إذا ما تم نقصانُ فلا يغرنّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمانُ
تجرعنا جميعا علقما بعد اندلاع الاشتباكات في العراق بين تيار الصدر، والإطار التنسيقي، لتراق دماء عراقية، على أرض العراق، في سياق الصراع على السلطة، وفي ظل الأحوال المعيشية الصعبة، وتردي الأحوال الاقتصادية وتفكك البنية الاجتماعية، والعمل وفق أجندات خارجية، ليجعلنا نتساءل في قهر: أهذا هو العراق مهد الحضارات، حاضرة الخلافة، بغداد الرشيد، بلاد الثروات والنفط والخيرات، جمجمة العرب وكنز الرجال؟!
حتما للدول أعمار كما البشر، والأيام دول بين الناس، وداوم الحال من المحال، لكن الدول لا تتردى أحوالها إلا بأسباب، فكيف وصل العراق إلى ما هو عليه؟
في سياق إضعاف وتفكيك الجيوش العربية في المنطقة التي انتهجتها أمريكا وحلفاؤها، لحماية الأمن القومي الإسرائيلي، وابتلاع الدول العربية، كان لا بد من القضاء على هذه القوة العربية الضاربة في المنطقة (العراق)، فقد كان يصنف الجيش العراقي من أقوى جيوش العرب والعالم تعدادا وتسليحا وخبرة قتالية.
استفادت أمريكا من صدام حسين في مواجهة إيران، عقب قيام الثورة الإيرانية وسقوط حليفها الشاه، وفي الوقت نفسه سعت لإضعاف الجيش العراقي، ولذا كانت استراتيجيتها في الحرب العراقية الإيرانية مبنية على عدم انتصار أحد الجانبين، بدليل أنها في الوقت الذي كانت تدعم العراق، وقعت فضيحة «إيران غيت» أو «إيران كونترا» في أواسط الثمانينيات، تبيع أمريكا بمقتضاها أسلحة متطورة لإيران، لكن مالت أمريكا إلى ترجيح كفة صدام بعد سيطرة إيران على الفاو. قرابة عقد من المعارك الطاحنة مع قوة كبيرة مثل إيران، كان كفيلا برفع مستوى أداء الجيش العراقي، ما شكل خطرا على الكيان الصهيوني، خاصة مع التسليح القوي للعراقيين، تناغم ذلك مع رغبة أمريكا في السيطرة على النفط العراقي، فكانت الخديعة الأمريكية التي زينت لصدام غزو الكويت، وصرح مسؤولوها في الخارجية بأنهم ليس بينهم وبين الكويتيين معاهدات دفاعية، فما إن وقع صدام في الفخ حتى تداعت جيوش الأرض لمواجهة الجيش العراقي، وكانت حرب إبادة للعراقيين، وحصارا غاشما أهلك الحرث والنسل.
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول التي تشير أصابع الاتهام بقوة إلى أنها جاءت بتخطيط من الدولة العميقة في أمريكا، لتجيش أمريكا العالم من أجل القضاء على الإرهاب شعارا، وإسقاط النظام العراقي وحكومة طالبان حقيقةً. قناة مفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران في هذا الوقت تجاه المسألة العراقية، فسمحت إيران للقوى الموالية لها في العراق للتحرك العسكري بشكل فعال للقضاء على النظام، مقابل اعتراف الولايات المتحدة بدور هذه القوى الموالية لإيران في رسم الخريطة المستقبلية لإيران. سقط العراق بعدوان غربي وتواطؤ من بعض قوى الداخل العراقي، في ظل الصمت العربي المعتاد، العرب الذين لم يكن بوسعهم في ظلال التبعية المطلقة أن يحلوا أزماتهم داخل البيت العربي الواحد. المكون العراقي بالغ التعقيد، ومع ذلك كان العراق أكثر استقرارا وأرغد عيشا وأقوى جيشا من معظم الدول العربية، الآن صار العراق مفككا، والتحالفات والصراعات من أعجب ما يكون، والبلد خاضع لحكم ميليشيات، وهناك أجندات خارجية لصالح أمريكا ولصالح إيران، وليس الصراع مرتبطا بالتنوع الطائفي، فهناك شيعة وسنة وأكراد ضد شيعة وسنة وأكراد، وهناك شيعة ضد التدخل الإيراني، وهناك سنة موالون لإيران. الموقف العربي كالعادة يكتفي بالمشاهدة، وتأييد الأطراف التي تنسجم مع شكل علاقتها بإيران والولايات المتحدة، وسيبقى الصراع المحتدم يصب في صالح الكيان الأمريكي الصهيوني، الذي سيظل يعمل على أن يبقى الجيش العراقي ضعيفا مُسيّسا تابعا، ويبقى هذا الخراب الذي لحق بالعراق ويستمر ذلك الهزال الاقتصادي الذي ضرب أطنابه في حياة العراقيين.
العراق لن يتجاوز هذه المرحلة العسيرة إلا بتخلي جميع الأطراف عن التبعية، وتغليب المصالح العليا للوطن عن المصالح الحزبية والطائفية، وطالما ظلت الميليشيات المسلحة في الحياة العراقية، وطالما بقيت شخصيات ورموز ضالعة في الكوارث التي لحقت بالعراق، في المشهد، فلا أعتقد أنه سيكون هناك استقرار في الحياة السياسية والأمنية. الحل في أن يتاح للشعب على اختلاف مكوناته أن يقول كلمته، وأن يحكم نفسه، بعيدا عن نظام المحاصصة الطائفية الذي وضعه الاحتلال الأمريكي بعد دخول العراق، وعليه يقوم الحكم السياسي حتى الآن، والذي يعد مشكلة يرفضها الشعب بالأساس، فطالما أن المحاصصة موجودة، فسوف تراعي ترضية عناصرها على حساب تقديم الكفاءات، ويضعف أداء البرلمان في دوره الرقابي بسبب الانتماء للتكتلات الطائفية المختلفة، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد