عين وثلاثة أنوف

mainThumb

13-05-2025 12:56 AM

قبل أيام وصلتني رسالة من فتاة موهوبة في الكتابة، ومنذ السطر الأول عرفت أنها تتمتع بموهبة نادرة بين أقرانها، إلا أنها قمعت كل رغبة لديها في النشر من أجل إرضاء والديها، فهي تفضل أن تبقى الابنة المطيعة التي يُحتذى بها في العائلة، على أن تكسر صورة الفتاة المثالية التي يرسمها والدها في خياله، ذاك الخيال الذي ينهل من قيم المجتمع المتسلط بطبيعته. ثم شيئًا فشيئًا، اكتشفت أن هذه الفتاة تتعرض بشكل شبه يومي لابتزاز الأبوين العاطفي، حيث إنها، ومع أقل زلة، تواجه فيلماً طويلاً من العويل على تربيتهم الضائعة وحظوظهم العاثرة، والعقوق المهول الذي لا يليق بتربيتهم الرفيعة المستوى. وهكذا، ظلت هذه الفتاة أسيرة مشهدية مشروخة ومكررة تعاد عليها مع كل رأي بسيط تحاول أن تعبر فيه عن نفسها ورؤاها الشخصية التي لا تناسب مزاج والديها، حيث يتحولان فجأة إلى قبيلة ومجتمع وبلد بأكمله يجلس أمامها في غرفة المعيشة الصغيرة، وينهال عليها بالتقريع والصراخ والمواعظ.
تذكرت على الفور غريغور سامسا، بطل رواية «المسخ» لكافكا، فقد استيقظ غريغور فجأة من نومه ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة، وبسبب هذا التحول الرهيب والمقزز، لم يعد بإمكانه إعالة والديه. ظل حبيس غرفته، يراقبهم من بعيد وهم يندبون حظوظهم على ابنهم العاق الذي حرمهم فجأة من مستوى معيشي معقول بسبب تحوله المفاجئ. كان غريغور يعمل طوال اليوم لسد دين أبيه، بلا آمال أو تطلعات، وربما كان يشعر في جوهره منذ الأزل بأنه حشرة صغيرة ليس لها هدف. وكلما مد هذا الصرصار العملاق رأسه من غرفته، تلقى ضربة عنيفة من والده الذي لم يحتمل رؤيته على هذا الحال. لكن غريغور، بالرغم من كل هذا الظلم الذي لحق به، كان يشعر بالذنب لأنه أخفق في جعل والديه فخورين به، وشعوره العميق بالذنب هو الذي أودى بحياته كصرصار، عاش بقية أيامه وهو يتلصص على وجوه أحبها طوال حياته.
هناك ثلاثة أنواع من الأبناء؛ النوع الأول هم أولئك الذين يحبسون أنفسهم في قوالب جاهزة من صناعة ذويهم، إلا أنهم وبالرغم من سحق أنفسهم وطبيعة المستقبل الذي يناسبهم، يظلون مطاردين بشعور الذنب إلى الأبد. والنوع الثاني هم أولئك الذين يحطمون آباءهم تحطيماً كاملاً من أجل بناء ذواتهم الفولاذية التي لا تطاق، وهم عادةً ناجحون مهنياً، لكنهم محطمون نفسياً. أما النوع الثالث، فهم أولئك الذين يحظون بآباء يعرفون معنى فردانية الإنسان بغض النظر عن تبعيته البيولوجية، وهؤلاء هم الأكثر حظًا واستقرارًا وافتتانًا بالعالم.
وفي عودة سريعة لقصة الصديقة الموهوبة تلك، لم أجد حلاً أفضل من إهدائها كتاب فرجينيا وولف «غرفة تخص المرء وحده»؛ إذ إن هذا الكتاب في الغالب يحاكي بشكل مباشر كل كاتبات العالم في كل أحوالهن المختلفة وجنسياتهن المتنوعة. تضع فرجينيا في هذا الكتاب فرضية بسيطة ولكنها جوهرية؛ أن كل كاتبة تحتاج إلى غرفة خاصة بها ومساحة شخصية معزولة كليًا عن الفضاء المحيط، بالإضافة إلى مبلغ بسيط شهري يمكنها من خلاله مزاولة الحياة كحد أدنى من العيش الكريم.
ثم فجأة، تذكرت حياة فرجينيا مع والديها؛ الأب الأرستقراطي والكاتب والفيلسوف، والأم التي غابت مبكرًا عن الحياة. وصفت فرجينيا أهلها وصفًا دقيقًا في روايتها الشهيرة «إلى الفنار»، إذ تبدأ بوصف العائلة الصموت في إجازة، ثم تنسل كعادتها في تيار الوعي إلى عقول أفراد أسرتها، لينفتح السرد مع تدفق هائل للمونولوجات الداخلية. ومن هنا، ومن دون الحاجة لقراءة سيرتها بالكامل، يمكن أن نكتشف أن السيد ليزلي ستيفن، والد فرجينيا، قد أخصها دونًا عن غيرها بقص الحكايات مع تأويلاته العقلانية التي لا تناسب عمر الأطفال؛ كان يحذرها من الأوغاد في القصص، مشيرًا إلى أن الوغد في الحياة ليس كالوغد في الحكايات، فالأول غالبًا ما يكون ساحرًا وجذابًا ولطيفًا، فيسهل عليه الإيقاع بضحاياه، على عكس الوغد في القصص الذي تصوره الروايات على أنه قبيح وفج ومنفر ومفضوح.
لقد حققت فرجينيا وولف بعد سنوات حلم والدها بالنجومية الأدبية، لكنها واجهت تحديًا أكبر من المجتمع نفسه، تلك التقاليد الفيكتورية الصارمة التي كانت تضيق الخناق على الكاتبات بشكل خاص. فقررت فرجينيا محاربة الأوغاد في الواقع بطريقتها الخاصة؛ فأسست مجموعة «بلومزبيري» الشهيرة، وهو أشبه بالصالون الأدبي الذي ضم فرجينيا وأختها الرسامة فانيسيا وزوجها بيل كلايف، الناقد الفني العبقري، ومجموعة من الشباب الموهوبين والمثقفين في مختلف الاختصاصات، والذين غيروا شكل الأدب والفن الإنجليزي إلى الأبد.
لم يكن عالم فرجينيا وولف جيدًا على الإطلاق؛ فقد تعرضت في طفولتها للتحرش من قبل شقيقها الأكبر، وهو جرح نفسي عميق ساهم في تطور حالتها التي شُخصت فيما بعد بإصابتها باضطراب ثنائي القطب، وهو ما أدى في النهاية إلى انتحارها بمشهد مسرحي يعكس مدى تولع فرجينيا بالكتابة. كتبت نهايتها مع كل خطوة مشتها باتجاه نهر أوز، مطلقةً أوفيليا جديدة تنتصر على أوفيليا شكسبير بثقل وجودها الدرامي ورحيلها الذي بلل كل حكاياتها التي لا تخلو أبدًا من ذكر فيضان مياه النهر.
بعد أن قرأت صديقتي الكتاب الذي نصحتها به، قررت أن تكون النموذج الأول من الأبناء المطيعين، لأنها موشومة بشعور الذنب. قلت لها: «من لا يقوى على تغيير مصيره الشخصي، لن يستطيع أبدًا تغيير مصائر أبطاله. فكتابة الروايات فعل ذاتي خالص، يتطلب جرأة التحول الكامل، سواء كان إلى حشرة ضخمة أو إلى جثة تطوف إلى جانب الورود فوق المياه المالحة.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد