جريمة بان: بين جسد ممزق وبيان مُنمّق

mainThumb

19-08-2025 09:46 AM

«كيف انتصرت السلطة لرواية الانتحار عبر اللغة لا الحقائق؟».
ضج الشارع العراقي في الأيام الأخيرة بخبر مقتل طبيبة عراقية متخصصة بالطب النفسي في محافظة البصرة. كانت الصدمة الأولى التي تلقاها الناس هي إصرار ذويها على رواية انتحارها بسبب ضغوط العمل كما ادعوا، رغم اعتراض كل زملائها الذين يعرفونها جيداً. لكن سرعان ما بدأت تتسرب صور تظهر وحشية مفرطة في التعذيب، إذ وُجدت ذراعاها مبتورتين بشكل طولي حتى العظم، والجسد غارقاً في كدمات وتشوهات. تفاصيل لا تحتملها الكلمات، لأن الكلمة حين تلامس القلب تصبح أقسى من الفعل نفسه.
بدأ العراقيون ومعهم بعض المؤثرين العرب في تحليل مسرح الجريمة وكأن البلد كله تحوّل إلى لجنة تحقيق جماعية. راقبوا منشورات أخيها الذي بدا أنه يعاني من اضطرابات عقلية واضحة، مع ميله العلني لتصوير الأعضاء المبتورة والجثث المشوهة. شيئاً فشيئاً تركزت أصابع الاتهام على الأخ وأصدقائه، بالتزامن مع موقف الأم التي أصرت ببرود لافت أن ابنتها انتحرت، إذ ربما كانت تحت التهديد دون أن يظهر عليها أي أثر للحزن. وعلى الرغم من أن ذوي أي منتحر في بلادنا العربية يرفضون مثل هذه الحقائق في العادة بنكران شديد، أي رواية انتحار الأبناء، لأنه السيناريو الأشد مرارة على قلب الأم على وجه الخصوص، ولأن الدين الإسلامي يُعامل المنتحر معاملة الكافر؛ إذ لا يُصلى عليه! حتى صار هذا الإصرار من قبل العائلة هو الذي فجر الشك بصحة هذه الادعاءات.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبدأت تنتشر إشاعات أخطر لا نعرف مدى صحتها، حيث تم التصريح من أكثر من جانب أن الدكتورة بان كانت المسؤولة عن قضية تخص أقارب محافظ البصرة، الذي سبق أن قتل زميلته أمام الكاميرات. حاولوا تبرئته بادعاء إصابته باضطراب نفسي لتجنب عقوبة الإعدام، لكن بان لم تقبل أي مساومة، حسب السردية التي انتشرت. تمسكت بموقفها المهني والأخلاقي وأكدت أنه لا يعاني من أي مرض، لتضع نفسها في مواجهة مباشرة مع نفوذ لا يرحم.
انفجر الشارع العراقي غضباً. انتصر لها الجميع دون استثناء، من المثقفين والمؤثرين إلى أصحاب «البسطيات» وعابري الطرق. الرجال والنساء، الأطفال والشيوخ، الكل بكوا ملامحها البريئة وابتسامتها الفطرية التي صارت رمزاً، ورأوا فيها لحظة نادرة لوحدة شعبية تشبه فرحة أبطال آسيا عام 2007، لكنها هذه المرة مغموسة بالدموع والمرارة والغضب.
وسط هذا الزخم، حاول بعض السياسيين تشويه صورتها. تارة بالتأكيد الغريب على رواية الانتحار، وتارة أخرى بالتشكيك في شرفها، إذ هاجموا بشراسة كل من رفض رواية الانتحار، وكأن موت هذه الفتاة هز عروشاً راسخة منذ عقود. تعاملوا مع الشعب وكأنه جاهل لا يفقه شيئاً، لكن المفارقة أن ما كشفته الجريمة هو العكس تماماً؛ فقد اصطدموا بوعي جمعي لا يمكن إنكاره، ووعي يعرف كيف يميز الحق من الأكاذيب الرخيصة. كما أني لا أستطيع بشكل حازم تبرئة من يلح على رواية الانتحار؛ فالنتيجة الكارثية لتشويه الجثة تبدو وكأنها مقصودة، إذ من الممكن تصفية الضحية دون هذه الجلجلة الكبرى لشغل الرأي العام بتوزيع الاتهامات التي من الممكن أن تبرئها المحكمة؛ فينقلب الكره الشديد إلى عقدة ذنب وتضامن ضمني، مما يرفع من شأن الاسم المتورط هو وحزبه بعد تبرئته أمام الناس. وهي خدعة «الدعاية السيئة هي الدعاية الحقيقية» كما فعل ترامب مع الفارق في حملاته الانتخابية السابقة. هناك قصدية واضحة لشغل الرأي العام واستغلال مشاعر الناس ومن ثم قلب الحقائق في لحظة.
لكن اللافت أكثر من كل شيء أن النتيجة التي أعلنتها الحكومة لم تنتصر للأدلة بل انتصرت للغة. جرى تقديم البيان الرسمي وكأنه حكم قضائي مبرم، معتمداً على كلمات مثل «الانتحار» و»الأدلة القطعية» و«إغلاق الملف»، من دون أن يعرض للرأي العام تفاصيل تقرير الطب العدلي أو يبين سلسلة الأدلة الجنائية التي قادت إلى هذا الاستنتاج. لقد تحول النص الحكومي إلى بطل الحكاية لا الوقائع نفسها. وهنا تكمن الحيلة: الانتحار رُسّخ كحقيقة لغوية قبل أن يكون حقيقة جنائية. وبهذا غدت اللغة وسيلة لإخضاع الوعي الشعبي، فالبيان لم يقدم برهاناً علمياً مقنعاً بل صياغة تخاطب ذهنية اعتادت على الخضوع للسلطة. وكأن المطلوب أن يصدق الناس الكلمات فقط، وأن يتجاهلوا صور الجسد الممزق وآثار العنف الصارخ. وفي بلد مثقل بخطايا السلطة، تصبح اللغة الرسمية أداة للطمس أكثر مما هي أداة للبيان.
قلبت حادثة الدكتورة بان جراح العراق كلها. طرحت أسئلة لم تجد جواباً حتى الآن: ما معنى الشرف حين يصبح مقترناً بجسد امرأة؟ ولماذا يجب أن يكون وجودها رهناً برأي رجل؟ في بيوتنا كان الشرف يعني الصدق، مجرد كذبة واحدة كافية ليهتز الإيمان بالإنسان. لكن اليوم، صار الشرف من حصة النساء فقط، ومبرراً لطمس حياتهن.
رغم كل الحزن والخذلان، فإن أكثر ما يؤلم هو إصرار بعض المسؤولين على الرهان على جهل الشعب العراقي. وكأن هذا البلد لم يقدم للعالم علماء ومفكرين وعباقرة. لقد أرادوا شعباً جاهلاً، لكن بمسرحية دم بان وحدها فجّرت وعياً جماعياً وإنسانياً لا يساوم.
مما لا يقبل الشك أن عائلتها تسترت على أبشع جريمة شهدها العراق مؤخراً بعد سلسلة قتل النساء تحت ذرائع متعددة، لكن القدر جعل من دمها نافذة للحق شرط أن ينقلب السحر على الساحر. إذ إنها انتقلت من غرفة معيشة متواضعة إلى قصر فسيح يدعى العراق من شماله إلى جنوبه، ذلك لأنها ربما حقاً لم تقبل أن تساوم على دم امرأة أخرى. بهذا الموقف، تحولت إلى أيقونة خالدة وشاهدة على أن النساء الشهيدات عاليات الجناب، وأن دماءهن يمكن أن يوحد أمة بأكملها لن ينطلي عليها اختلاق الأزمات في وقت الانتخابات.. وهكذا يكون الوطن.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد