صنع الله إبراهيم… فقد كبير

mainThumb

19-08-2025 09:48 AM

منذ أيام قليلة، رحل صنع الله إبراهيم، أحد أبرز الروائيين في مصر والعالم العربي، والروائي الذي تكاد تتفق كل الآراء، على أنه مبدع أولا، وصاحب مبادئ عظيمة لم يتزحزح عنها حتى رحل.
صنع الله رحل في الثامنة والثمانين، وأظنه قدم تجربة كبيرة ومميزة في الرواية العربية، وتم الاحتفاء بهذه التجربة في أماكن كثيرة، من الوطن العربي وأوروبا، وأذكر منذ أعوام أن احتفلت به جامعة أمريكية، وعلق بأنه لن ينسى هذا الاهتمام الكبير بما قدمه، وطبعا كان يستحق وقد قدم للأجيال ملاحم لا يكتبها إلا متمرس صبور، وذا عين لاقطة، توثق لكل شيء.
وعلى الرغم من أنني لم أقرأ كل أعمال صنع الله، ومن مدرسة أخرى في الكتابة، بعيدة عن نهجه، إلا أنني أقر بأن كل رواية له، ابتداء من «تلك الرائحة»، وحتى «القبعة والعمامة»، والأعمال الأخيرة، فيها جهد كبير، ودراسة متأنية لما يكتب عنه من قبل أن يكتب، وهذه من سمات الرواية العظيمة، أن تتم دراسة مادتها قبل الكتابة، ولا يعتمد الروائي، إن كان يتناول موضوعا تاريخيا، أو اجتماعيا على الأخبار العشوائية، والكلام الشفاهي، وقد قلت كثيرا، إن كتابة الرواية، ما هي إلا إعادة إنتاج للمعرفة التي اكتسبها الكاتب وضخها، عبر حكاية وشخوص وأمكنة، وهذا بالضبط ما كان صنع الله يفعله، اكتساب المعرفة وإعادة ضخها.
أول مرة التقيت بصنع الله، كان في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، حين كنت أدرس في مصر، وبالتحديد في مدينة طنطا، التي تقع في منتصف الدلتا، كانت ثمة رابطة للأدباء، فيها شعراء وكتاب ونقاد، وأشخاص مهتمون بالأدب من دون أن يكونوا أدباء حقيقيين، ولأنني كنت موجودا هناك، تعرفت إلى أولئك المثقفين، مثل محمود حنفي، وفوزي شلبي، وصالح الصياد، وصرت أحضر فعالياتهم، كلما سنحت فرصة. كان يرأس تلك الرابطة كما أذكر، فاروق خلف وهو شاعر، وناقد ومهتم بالأدب، وأذكر أنني تعلمت علم العروض أيام كنت أكتب الشعر، من كتاب أصدره. كانت الفعالية التي نظمت في طنطا، لمناقشة رواية «تلك الرائحة» الرواية الأولى والصغيرة في الحجم، لصنع الله إبراهيم، وكانت ستتم المناقشة في حضور الكاتب.
زودونا بنسخ مصورة من الرواية، التي استطعت قراءتها في ساعات محدودة، وكانت المرة الأولى التي أقرأ فيها لهذا الكاتب المهم، الذي لم يكن مجرد كاتب، من جيل الستينيات، قال ما قال ومضى، لكنه عبقري وعظيم بطريقته، التي تجبرك على احترام ما يكتب، حتى لو لم تتذوقه كلية. كان صنع الله نحيلا جدا، وهادئا جدا، ويتحدث بصوت منخفض، وبكثير من التواضع، ولا يبدو منشرحا بتلك الصفات المتهيجة التي كان يطلقها عليه بعض الحاضرين. كان في ما يبدو قدوة لكثيرين جاءوا لحضور فعاليته، ولم يرد أن يصبح قدوة لأحد، إنه كاتب فقط، يكتب ما يظنه كتابة، توصله بالقراء ولا شيء آخر. كانت «تلك الرائحة»، في رأيي جمرة حارقة لما يمكن أن يحدث في السجون والحراسات، وقد أجاد اختيار شخصياته القليلة، وجوه المشحون بالنواقص، وذلك الاشمئزاز الذي تحسه وأنت تقرأ نصا كهذا.
بعد الندوة تعرفت إليه، وكنت في ذلك الوقت كما قلت، شاعرا، لم أطرق الرواية بعد، ولقد تقبل معرفتي بهدوء، وبدا لي مختلفا عن كل الكبار الذين التقيتهم في ذلك الوقت، مثل محمد مستجاب، الذي كان صاخبا وساخرا، وتستطيع مصادقته من أول لقاء، بينما ثمة شيء يمنعك من محاولة صداقة صنع الله، أو ربما تصادقه، ولكن تحتفظ بمسافة ما، لا تقربك كثيرا، ولا تبعدك كثيرا.
بعد ذلك لم ألتق صنع الله، كثيرا، كنت أصادفه أحيانا في ندوات ومؤتمرات أدبية في أماكن عدة، ازدادت كتابته وهجا، وما يزال الرجل النحيل الهادئ، الذي تود أن تصبح صديقا عزيزا له ولا تقدر. بعد ذلك قرأت «اللجنة» و»نجمة أغسطس» و»شرف»، التي كانت متعمقة في أدب السجون، ومليئة بمعلومات قد لا يستطيع القارئ الحصول عليها بسهولة، ثم كانت روايته «ذات»، بنفسها الاجتماعي السياسي.
في رأيي أن صنع الله، اكتسب أهميته الحقيقية، من توثيقه لتاريح مصر عبر حكايات جذابة، وتوثيقه للسجن بكثير من المهارة والإتقان، وعلى الرغم من أن مبادئه، مهمة أيضا، إلا أن الإصرار على أن يحوله البعض إلى مبادئ، وأنه رفض جائزة كبرى، لأنها من سلطة غاشمة، لا يبدو هو المنهج الصحيح، وأعتقد أن من حق أي كاتب أن يقبل جائزة أو يرفضها، لكن ليس من الضرورة، أن يضاف ذلك إلى سيرته، وتذكر المسألة كلما ذكر.
ولا يفوتني أن أذكر، أن كثيرا من الأدباء في السودان، تأثروا بصنع الله، ولجأ إليه البعض لكتابة سطور عن أعمالهم قبل إصدارها، وكتبها بكل أريحية، وصديقنا الكاتب المجيد إبراهيم بشير، صاحب رواية «الزندية، الجميلة»، التي لم تنل حظها من الانتشار، لزهد الكاتب نفسه في مسألة الانتشار، لديه ولد اسمه: صنع الله إبراهيم.
آخر مرة رأيت صنع الله، كان عام 2019، أثناء معرض القاهرة الدولي للكتاب، كنت أسير وحدي، وشاهدت صنع الله محاطا بالكاميرات، يمشي ببطء، وثمة من يحاوره، قاطعت ذلك الحوار مستأذنا أن أسلم على أستاذنا، وكان ترحيبا كبيرا وهادئا كالعادة.
لقد فقدنا صنع الله، فقدنا الكتابة المحترفة العظيمة بلا شك، وقبله فقدنا معظم أبناء جيله، وكان من جيل مختلف وعظيم بالفعل، أرسى لنا قواعد نسير عليها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد