الشاهد الصامت

mainThumb

28-09-2022 02:08 PM

دفع الباب بقدمه فكاد ان يخلعه من مكانه فارتعبت أمه التي كانت تحضر الغداء في المطبخ فهرعت الى الصالة قائلة:’ يا لطيف! يا لطيف!" فوجدت ابنها خالدا يتصبب العرق من جبينة ويرتجف وقد انتفخت أوداجه! أدركت انه يمر في نوبة عصبية تلم به عند الغضب فقالت:" خير... خير إن شاء الله" واحضرت اليه عصير الليمون فشربه وكلمته امه بهدوء ... "ما الذي حصل؟ "سالت الام , قال الابن : "هذا الشايب عمي يستاهل طلق بين عيونه ، فهو يعلم علم اليقين ان بنت عمي تريدني وانا اريدها لكنه اليوم نطق بها لأبن أخيه – رفيق". فقالت الأم : "قد نكره شيئا او أمرا ما وهو فيه خير كثير لنا ¬ ، ما يدريك ربما كان في هذا الأمر خير لك فلا تاس على ذلك فالبنات كثيرات وهن خير منها خُلُقا وخَلْقا".... ساد صمت رهيب ثم حمل خالد خرطوشا وخرج! .
صعد طريقا ترابيا قاده الى تلال تغطيها الاشجار الكثيفة فجلس في ظل شجرة على صفاة ملساء سارح الفكر حزينا على ذهاب بنت العم التي عاش على حبها في الوهم سينينا ، كانت تهب عليه نسمات من السفح المقابل نسمات بارده بعد ان تمر فوق الوادي الجاري بين سفحين وخرير ماء الوادي يملأ المكان فيبعث النشوة في النفس , استسلم خالد للنعاس فراح في سبات عميق. وفي النوم سمع هاتفا به من جوف السماء :"أيها النائم استيقظ فهذا ليس مكانا للنوم ، انت تثقل علي بنومك هنا ، هيا انهض لا مكان لك هنا "، فقال:" من انت يا سيدي ! دعني انا عايف حالي، اريد ان استريح قليلا." .فشعر بيد باردة تلامس عنقه فنهض مذعورا وافاق وإذا بشيخ طاعن في السن يمسك يده بقوة فتسمر في مكانه وقال الشيخ : اجلس بهدوء وقل لي ما الذي جاء بك الى هنا ؟ قال الشاب:" عمي رفض أن يزوجني بنته وأعطاها لشخص غير جدير بها ، وانا اريدها وهي تريدني فحضرت الى هذا المكان هربا من واقعي لعلي اجد لمشكلتي حلا او خلاصا منها" ! .
قال الشيخ :قد تاهت بك السبل والحل بسيط : إن اردت التخلص من خصمك تقرب اليه وتودد ، لا تظهر له العداوة والبغضاء فيبقى حذرا منك ، عليك بملاطفته ومجاملته حتى تحين لك فرصة الخلاص منه "!
ابتهج خالد ونهض فإذا بطيري حجل في مرمى بندقيته فاصطادهما وقفل الى البيت مسرورا ، وفي الطريق فكر وتتدبر وعزم على تنفيذ خطة شيطانية قد تخفى عن الخلق لكنها لا تخفى عن الخالق، وفي الطريق التقى الشاب " رفيق" خطيب ابنة عمه " شامة" فهنأه بالخطوبة وأكد له انه يحترمه ويقدره وأصر على ان يأخذه معه الى البيت! وقدم له القهوة والشاي وحضرت ام خالد مرحبة بالضيف العزيز .
وتوثقت أواصر المحبة والصداقة بين خالد ورفيق كانا يمضيان معظم الوقت معا . وفي الربيع كان الجو دافئا وقد غطى الربيع الأرض ببساط موشى بشتى أنواع الزهور ... اصطحب خالد صديقه رفيقا واتجها نحو الجبال الشاهقة الصخرية شرق القرية ... وفي الطريق أصابهما العطش فنزلا الى واد غزير المياه فارتويا وتزودا بقليل من الماء وواصلا سيرهما، وفي الطريق اخذ خالد يطلق النار من خرطوشه على الثعالب التي كان يراها تطل من فوق الصخور . واخير وصلا الى منطقة منعزلة بين الجبال محاطة بالصخور من كل النواحي : كان في وسط البقعة التي استقرا فيها صخرة شاهقة كأنها عمود ،واخذا يجمعان اعواد الحطب لإشعال النار التي قال خالد انه سيشوي عليها صيده ، لكن خمدت النار ولم يأت الصيد فقال رفيق : "انا جائع !" وضاق ذرعا بوعود خالد انه سيظفر بصيد قريبا , تفكر خالد قليلا وقال : "أنا سأريحك من الجوع الى الابد "، فالتفت رفيق سائلا:" ما قصدك؟"
فقال سالم:
الموت هو الذي يخلصك من مشكلات الدنيا كلها فاليوم اتخلص منك انت لأنك هدمت آمالي كلها التي عشت سينينا وانا كل ليلة أعيش مع الأمل القادم: العيش مع ممن كنت أهواها وارنوا الى اليوم الذي يجمعني بها ،وفجأة طلعت لي انت وابوك فبددتما وخطفتما زهرة حياتي بنت عمي التي احببتها وعشت سنيا طوالا احلم بها ، لقد اصابني هم وغم يوم خطبتها وحملت سلاحي واردت ارتكاب جريمة لولا ان الشيطان هداني الى خطة محكمة اتخلص منك فيها ، أنا ما توددت اليك وعقد ت صداقة معك الا للبحث عن فرصة الخلاص منك، واليوم في هذه الساعة حانت الفرصة فهذا مكان مهجور لا يرتاده احد ، وانا عقدت العزم يا صديقي ابن عمي على التخلص منك الآن، فقال رفيق: رويدا يا اخي : أنت تقول انا قد دمرت آمالك ، فأنت إن قتلتني سيبان امرك ولن تجني غير الشنق ، أو تموت ثأرا ، فلابد من ان ينكشف امرك خصوصا وان الشيطان قد أوحى لك بهذه الفكرة الاجرامية ، وانت تعلم أن كيد الشيطان ضعيف ، فلا ترم نفسك في مهلكة لا تنجو منها في الدنيا والاخرة ، فلا تظنن ان لا أحد يراك، فالله يراك وجنود ربك تراك وكلهم سيشهدون عليك ،أترى تلك الصخرة الشاهقة إنها تسمعك وتراك ويوما ما ستشهد أنك قد قتلتي ظلما !
ضحك خالد حتى استغرب! وقال دعها تشهد عليّ: وانا ان تركتك فلا آمن جانبك ، لكن سأطلق عليك النار في راسك وانهي حياتك والقيك في ذلك السلع الذي لا يطير فيه طير ولا وحش فيه يسير . وضغط على الزناد فتناثر دماغ صديقة وطاح في الفلاة قتيلا مجندلا. جرّه الى حافة السلع الصخري واطاح به فهوت الجثة عميقا في جوف السلع الصخري وقفل عائد الى القرية خائفا يتلفت. تعمد الا يدخل القرية الا ليلا ...
اختفى رفيق شهورا لا احد في القرية يعرف عنه شيئا ، وحان موعد زواجه الذي حدده لكن فات الموعد ومضت الشهور ويأس الناس من عودته ... فحنق والد ميثاء وراجع اهل العريس وقال لهم ان لم يحضر رفيق خلال شهر فسيبطل عقد القِران!
فسخ عقد القران وبعد مضي سنة عاود خالد طلبه ليد ابنة عمه فوافقك عمه ، ودارت الأيام وتم الزواج : كان خالد ينفجر ضاحكا وهو نائم واحيانا تنتابه الكوابيس فيقفز من السرير مذعورا صارخا : "خنقني . ابعدوه عني لقد خنقي."
ارتاعت امه فقصدت الدجالين والمشعوذين لعلاجه دون جدوىٍ
وتمضي عشر سينين .... وحل الربيع فقرر خالد ان يذهب وزوجته في ر حلة الى متنزه أنشئ حديثا يأتيه الناس من جميع انحاء البلاد ، قصد المتنزه ومكث فيه قليلا حيث تناول الطعام والماء البارد هو وزوجته ثم قصد بقعة من الأرض وعرة تحيطها الصخور! وعندما وصل المكان شاهد الصخرة العالية التي ارتكب خالد جريمته عندها فانفجر ضاحكا ، فأصّرت زوجته معرفة سبب الضحك فقال لها: أتكتمين سري ؟ فقالت له :"إن إنا لم اكتم سرك فمن يكتمه؟" فقال تذكرين خطيبك الذي اختفى ، انا اعرف مكانه، فقالت : وكيف عرفت ؟" فقال انا استدرجته الى هذا المكان وخلصت عليه بمسدسي هذا ورميته في ذاك السلع ، لكنه كان قليل عقل فقد قال لي لما عرف اني قاتله لا محالة قال إن الصخرة العالية تلك ستشهد علي ويصدقها الناس. فقالت : انالا أصدقك اثبت لي ذلك ! فقال هيا معي واتجه الى السلع وطلب منها ان تدقق النظر في قاع الجرف ، فشاهدت هيكلا عظميا ، فارتعدت خوفا واخذت تصرخ فهدأ من روعها ... وقفل راجعا الى حيث سيارته فقالت له انها تعبة وتريد ان تنام في الكرسي الخلفي للسيارة! وفي الطريق أخرجت ورقة وقلما وكتبت فيها : "انا حياتي في خطر: زوجي يهددني بالقتل"! كانت تعلم ان هناك دوريات أمنية على الطريق!
توقف خالد عند نقطة أمنيه فجاء شرطي ففتح الباب الخلفي وشاهد المرأة تجلس مذعورة ، فناولتنه ورقه ، اخذها الشرطي وابتعد عن السيارة خطوات فانطلق خالد بسيارته مسرعا ، لكن سيارة الشرطة تبعته ولاحقته حتى توقف عند نقطة تفتيش ثانية فهرع اليه افرادها وطلبوا منه النزول واحتجزوه ، و سلمتهم الدورية الأولى ورقة البلاغ التي اعطتها الزوجة للشرطي. اخذ الزوجان الى المركز الأمني وهناك اعترف خالد بجريمته التي وقعت قبل عشر سينين فأدرك صدق ما قالته الضحية له: فقد نطقت الصخرة العالية رغم صمتها لقد أنطقها الله على لسانه!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد