يوم ابتسمت لي الملكة إليزابيث وحيّتني

mainThumb

10-10-2022 07:52 AM

علاقتي ببريطانيا العظمى علاقة قديمة تعود إلى طفولتي الباكرة كوني قارئة نهمة لكل ما قدم إلينا منها من نصوص مترجمة، فقد سافرت إليها بمخيلتي قبل أن تطأ قدماي أرضها عام 1993 حين زرت لندن بغاية لقاء الشاعر نزار قباني.
فقد تأثرت مثل معظم البنات بقصص الأميرات الجميلات العالقة بمخيالنا حين كنا أطفالا، إذ لا يخفى على أحد أنّ أغلب البنات كنّ أسيرات تلك الصورة الجميلة لأميرات بفساتين واسعة مثل الذي ترتديه ساندريلا في عرسها مع فارس أحلامها، بل إنهن كثيرا ما رأين أنفسهن أميرات، ومثّلن تلك الأدوار في مسرحيات مبتكرة خلال ألعابهن البسيطة، كما راودتهن أحلام كثيرة تخيّلن فيها جنياتٍ في إمكانهن تحويلهن إلى أميرات، حين كان البؤس يطوّقهن من كل جانب. أليس هذا ما حدث فعلا لمبتكر حكاية ساندريلا؟
من صُدف طفولتي التي تحضرني الآن أدائي لدورٍ في مسرحية «بياض النهار» التي اقتبسها و «بحْرَنها» الكاتب عبد الحميد النهار عن قصة بياض الثلج الشهيرة، لكني للأسف لم آخذ دور «سنو وايت» بل دورا آخر، لم يشبع طموحي الطفولي، وحين زرت لندن في ما بعد بسنوات زرت المجمع الترفيهي «تروكاديرو» وارتديت فستانا فيكتوريا جميلا اخترته من بين عشرات البدلات المعروضة للسيّاح.
ربما لرغباتنا الدفينة تفسير، لكنّ قبل تفسيرها فهي تتحكم في ميولنا، ولا أعتقد أن الصدف المحضة هي التي جعلتني أعشق قصة جين أوستن «العقل والعاطفة» فقد كانت استمرارا لتعلّقي بنمط معين من الأناقة والذوق والهوايات، أذكر أن الفيلم الذي أنجزه المخرج آنغ لي سنة 1995 حملني في رحلة زمنية لماض لم أعرفه سوى في الكتب، لكنّه توهّج في داخلي كأني عشته بتفاصيله. لقد قفز الفولكلور الأوروبي من خلال حكاياته الخيالية إلى الشق الآخر من العالم، حين صنعت الترجمة جسرا جديدا بين البلدان غاير تماما الجسر الذي عبره المستعمر الأوروبي بأسلحته للاستحواذ على ثروات هذا الشرق.
فتح جسر الأدب طريقا أخرى خالية من الدماء والكراهية والأحقاد والنوايا الاستعمارية، وقد كانت اللغة الأداة المسالمة التي بنت روابط مختلفة غير التي تركها المستعمر خلفه بتصرفاته المدمرة.
لنتفق أن هذا موضوع آخر يجب عدم التوقف عنده طويلا اليوم، لأن الذي لمع في رأسي هذه المرة، وأنا أتابع جنازة الملكة إليزابيث، ذكرى وقوفي أمام الملكة مباشرة وأنا طفلة، وهذا لم يكن حلما نسجته مخيلتي، بل واقعا وصدفة جميلة طبعت الكثير في نفسي. حدث ذلك سنة 1979 حين كنت عنصرا في «الزهرات» وهي فريق كشافة مكوّن من التلميذات المتفوقات، حين أُخِذنا إلى ميناء سلمان قبل مطار البحرين، لنستقبل الملكة إليزابيث التي جاءت لزيارة البحرين آنذاك، وكنّا متأنِّقات ببدلات الكشافة وقبعاتها المميزة، وحملنا أعلام البحرين وبريطانيا، حتى مرّت العربة التي تقل الملكة والأمير ببطء، كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الملكة، ولما ابتسمت وحيت الجماهير، شعرت بأنها تبسّمت لي وحيتني، كل شيء كاد يتوقف، وأنا أنظر إليها بين المئات حولي، فكانت تلك النّظرة ذات السحر الخاص قد خصتني بها، وكانت أشبه بلمسة عصا الجنيات السحرية، لمستني ومضت تاركة انطباعا منحني طاقة كبيرة أشعرتني بالتميز. في المرة الثانية حجزت لحضور أوبرا «زواج فيغارو» في المسرح الوطني في لندن على ما أذكر كان ذلك سنة 1997، وهي من أعظم أعمال موزارت مستوحاة من قصة حملت العنوان نفسه، كتبها الفرنسي بومارشيه، ومن حسن حظي أن الملكة كانت حاضرة، لكنني هذه المرّة رأيتها في الجهة المقابلة في الشرفة المخصصة لها بنظارات تليسكوب صغيرة، لأنها كانت بعيدة عني، وكانت محاطة بالحرس طبعا.
لا أدري لماذا أربط دوما بين ملكة النحل وخليتها، والملكة إليزابيث ومملكتها، بغضّ النظر عن أي كلام أيديولوجي يأخذنا بعيدا إلى المستعمرات البريطانية، وسياستها الخارجية، وما ترتّب عنها. ما يلفت النظر فعلا هو طول فترة تربعها على العرش، والتزامها بنظام صارم احترمته بحذافيره إلاّ في ما ندر، بحيث اتخذت قرارات ببعض التجديد. وفي منظوري هذا ما يمكن تسميته بنظام، بحيث كل الخطوات مدروسة، وأي اختلال قد تكون عواقبه غير مقبولة أو غير محمودة!
سخرت جماهير مواقع التواصل الاجتماعي المتعوّدة على الفوضى في حياتها من طقوس الجنازة الملكية، وانزعجوا من البث المباشر الذي اعتمدته تلفزيونات كثيرة لمتابعة رحلة جثمان الملكة إلى مثواها الأخير، في ما تذكّر البعض مقولات لها، وانتشرت مثل النار في الهشيم قصة مراسِلَتِها السرية التي طلبت منها قبعة فاكتفت الملكة بإرسال صورة موقعة لها!
بالغت هذه الجماهير «أبناء اللحظة» في انتقادها للملكة ولملابسها ولجنازتها، في ما هي التي حكمت بريطانيا سبعين عاما، حافظت على عظمة بلادها في الظروف كلها، ووفرت كل ضرورات الحياة فيه لأبنائه وللاجئين إليها. فهل يهمنا فعلا مصير قبعات الملكة، أو معاطفها؟ وتايوراتها؟ ومجوهراتها التي لا يبدو فيها أي بذخ مقارنة مع زوجات رجال سياسة عرب ترزح بلدانهم تحت نير الفقر والعوز.
أي نعم لست ضليعة في السياسة، ولا أحب الخوض فيها، فقد كان شغفي الأول والأخير الأدب والفن، وكل إبداع وليد أي لمسة جمالية. ولهذا كانت لندن ذاك المكان الذي وجدت فيه كل ما أحب كعاصمة بعيدة كل البعد في تفاصيلها عن القاهرة ذات الهوى الشرقي (غرامي الأول).
لندن في تشبيه قد يبدو غريبا، أراها مثل صبية ترتدي جينزا وتيشيرتا أبيض، متخففة من أثقال الماكياج والملابس المزركشة، كما أراها أحيانا في قمة أناقتها الشتوية بمعطف وشال وقبعة. لندن أيضا سيارات التاكسي السوداء المميزة وسائقوها البعيدون بأجوبتهم كل البعد عن أجوبة سائقينا، التي تأخذنا في متاهة من الأكاذيب أحيانا. هي نزار قباني، والقصائد التي تراقص الضباب والأمطار والصمت، نعم لندن مدينة إنصات بامتياز، لأنها عاصمة هادئة وصامتة. وفيها التقيت مبدعين عربا من الوزن الثقيل أمثال المخرج مصطفى العقاد، الذي حضرت معه في خرجات برنامج حلقتي الحوارية معه فخطفه الموت الغادر قبل غنهاء ذلك المشروع.
في لندن عرفت مسارح الساوث بانك، مسارح من نوع آخر تماما، واكتشفت كيف حافظ البريطانيون على بيوت كتابهم وشعرائهم، وحولوها لمتاحف سياحية، كما اكتشفت المكتبات بكل أنواعها، بدءا بالمكتبة البريطانية المهولة إلى مكتبات «السكند هاند» التي تبيع كتبا مستعملة للقراء.
لندن حاضنة فرحة الماجستير، والشوبينغ الفخم، والأسواق الشعبية الرخيصة المغطاة، والأوبرا، وهيئة الإذاعة البريطانية والأصوات المخملية التي كان يحملها الأثير إلينا مدججة بأدوات إبهارنا. هي ألفة الحمَام ورائحة الكستناء المشوي، والبرد المغاير لحرارة الخليج، والمقاهي والمطاعم الصغيرة الدافئة والأرياف العاشقة.
هي أيضا ذاكرة لرموز الإعلام العربي الذين التقيتهم هناك، مثل عبد الرحمن الراشد، وعثمان العمير مؤسس موقع إيلاف الذي كان فتحا في عالم الصحافة الإلكترونية، والدكتور نجم عبد الكريم الإعلامي الكويتي الكبير الذي كان له دورٌ كبيرٌ في مساري الإعلامي، إذ عرفني بأهم المثقفين العرب في لندن، هي أيضا دار الكوفة وذكرى أول أمسية شعرية لسعدي يوسف، وكثير من الفنانين والشعراء العراقيين، منهم هاني مظهر الفنان التشكيلي الكبير، والشاعرة وفاء عبد الرزاق، كما مثلت لي بيت نزار قباني الجميل. هي أيضا رحلتي الأولى عبر نفق المانش نحو باريس، هي عاصمة تضم عددا لا نهائيا من الثقافات والعواصم. هي ذاكرة جميلة يستحيل أن تسقط منها الأشياء بالأقدمية، لقد حرصت ملكتها أن تجعلها متينة متانة تلك التقاليد والبروتوكولات التي صمدت حيث يجب أن تصمد، وتحولت حيث يجب أن تتحوّل.
ملكة الأرقام القياسية لا تتقن سوى «الإنكليزية الملكية» واللغة الفرنسية بامتياز، على خلاف ابنها تشارلز وحفيدها وليم اللذين يتقنان خمس لغات، كما أن قائمة الأكل الملكية التي تقدم لها بالفرنسية. خلال الحرب العالمية الثانية انضمت إلى الخدمة العسكرية كنائبة في القيادة، حيث تعلمت قيادة المركبات وصيانتها في خمسة أشهر ونالت ترقية. لا ننسى أنها فارسة بارعة ومارست هوايتها في الريف البريطاني الذي تعشق بصحبة كلابها، وكانت تملك على الأقل ثلاثين كلبا من نوع كورجي القزمية، والغريب أن هذا النوع حقق زيادة قياسية في الإقبال عليه منذ وفاة الملكة، كما بلغ ثمن الكلب الواحد رقما قياسيا أيضا (2700 يورو). حين تزوجت الملكة الأمير فيليب في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1947 أُرسِلت لها هدايا من كل صوب من العالم، فاقت الـ 2500 هدية منها هدايا من أناس بسطاء تمثلت في ألبسة ومعلبات تبرعت بها للمحتاجين.
لم يكن موت الملكة موتا عاديا، فمن جهة أنعش الأسواق خاصة تلك التي تمارس نشاطها عبر الإنترنت، إذ حققت مداخيل بمليارات الدولارات بسبب إقبال الناس على شراء كتب وأقراص DVD وأكواب قهوة وألبومات وطوابع كلها متعلقة بالملكة وصورها وتاريخها وقصص العائلة الملكية. دعوني أسألكم هل يحدث هذا دائما مع الملوك؟ أم أنها الملكة إليزابيث الثانية بفخامة قدرها وتميزها؟ تلك الملكة التي ابتسمت لي وحيتني وأنا طفلة!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد