رواية من النكبة

mainThumb

07-11-2022 09:27 PM

يصف السير- أليك كيرك برايد - في كتابه " خشخشة اشواك" حالة جيش الإنقاذ في عام - 1948 الذي شكل من المتطوعين العرب تحت قيادة فوزي القاوقجي لتخليص فلسطين من العصابات الصهيونية آنذاك!
تمركز الجيش في سفوح جبال جبل النار الشرقية المطلة على الاغوار – منطقة وادي المالح والتلال التي حولها- وكان تنظيم تلك القوة تنظيما مهلهلا سطحيا فالخيام لا تكفي للجيش ولا خدمات طبية لديه فعناصر الإسعاف الملحقة به لا يتعدون اثنين او ثلاثة عناصر مع قليل من لوازم الإسعاف الأولي وبعض الادوية الشائعة كأقراص الكينا وبعض الملينات. وعند سؤال فوزي القاوقجي قائد القوة عن نقص اللوازم الطبية أجاب انه لا يتوقع ان تطول الحملة وأنه لا يتوقع إصابات خطيرةّ وتم نقل المدافع بواسطة الشاحنات – وسيلة المواصلات الوحيدة المتوافرة حينذاك!

كان الموقف في فلسطين غريبا جدا. فمع ان الحكومة البريطانية كانت مسؤولة فنيّا عن النظام والقانون في فلسطين تلاشت سلطات الانتداب تلاشيا كليا واهتمت القوات البريطانية بحماية عناصرها فقط مع ان صراعا مسلحا بين الطرفين المتنافسين كان حتميا!
كان اليهود يعبئون قواتهم ويسلحونها على رؤوس الاشهاد. وفي المقابل قام عرب فلسطين بنفس الشيء لكن بفاعلية أقل من خصمهم، . في ذاك الوقت دخل جيش(الإنقاذ) من خارج فلسطين لا تتحمل مسؤوليته اية دولة عربية ومع دخول ذاك الجيش الأرض الفلسطينية . اصبح الموقف أكثر غرابة حين بادر فوزي القاوقجي بعمل عسكري ضد اليهود مع وجود الجيش البريطاني مرابطا في مواقعه في فلسطين . كانت عملية فوزي الأولى هي مهاجمة مستعمرة منعزلة – مستعمرة تيرات زيفي ( يعرفها العرب "الزرّاعة") .تبعد حوالي عشرة اميال جنوب بلدة بيسان. كان فوزي واثقا عنجهيا الى درجة انه قام بالهجوم دون استخدام المدفعية او حتى دون التمهيد للهجوم بقذائف الهاون ، نفذّت العملية قوة مشاة في العراء عبر السهل المفتوح ( يقول العرب اللذين عاصروا الهجوم ان ليلة الهجوم كانت غزيرة المطر حتى ان اقدام المهاجمين كانت تغرق عالقة في وحل تربة السهل الخصيب هناك مما أعاق حركة المهاجمين ) . شن العرب الهجوم ضد قوة استحكمت فوق سطوح بيوت البلوك وكانوا يطلقون النار من نوافذ ( طلاقيات) اسوار السطوح واحيطت البيوت بسياج من الاسلاك الشائكة. وكانت النتيجة مأساوية فلم يكد يصل المهاجمون السياج الشوكي حتى انقلب هجومهم وبالا عليهم فقد فقدوا اثني عشر عنصرا قضوا في ارض المعركة وجرح ست وثلاثون في دقائق معدودة دون ان يلحقوا أي اذى بالمدافعين وكان على الجرحى ان يدفعوا ثمن سوء تخطيط قيادتهم لنقص الإسعافات الميدانية فقد اسعفوا اسعافا اوليا بسيطا في الميدان وتم نقلهم الى المشفى الحكومي في نابلس عبر طرق وعرة وقد القت الصحف العربية اللوم على السلطات البريطانية في فلسطين لعدم اتخاذها إجراءات استباقية لاستقبال الجرحى !
اما مغامرة فوزي التي تلت سابقتها فقد كانت اكثر طموحا من الأولى قام بها بتخطيط افضل من التخطيط للأولى لكنه كان تخطيطا بدائيا. واثبت الهجوم ان فوزي لم يأخذ بالحسبان المسارات المفتوحة للعدو . فقد نشر كل قوته ضد مستعمرة اكثر أهمية من الأولى_ مستعمرة مشمارهعيمك (التي تقع على الطرف الجنوبي من سهل جرزيل- يزر عيل ) على الطريق بين حيفا وجنين. واشتغلت المدافع العربية للمرة الأولى إذ بدا الهجوم بقصف مدفعي ألْحَقَ اضرارأً بمباني المستعمرة دون ان يصيب احدا من المدافعين الذين احتموا داخل سراديب تحت الأرض اذ بنيت استعدادا لمثل هذا الموقف من الإسمنت المسلح و كانت سُقُفُها مقاومة لقذائف المدفعية .
لم يَرُدْ المدافعون بأسلحتهم الخفيفة على المهاجمين وبعد ساعة اتخذ المشاة العرب وضعية الهجوم وترك فوزي مؤخرة قواته مكشوفة دون حراسة فوقع تحت هجوم مباشر بالأسلحة الاتوماتيكية من سفوح التلال المهيمنة على مسار الهجوم . وقد التفت نجدات من العصابات الصهيونية خلف التلال دون ان يحس بها احد من المهاجمين الا بعد ان شرعوا في اطلاق النار . فسادت الفوضى المهاجمين العرب , وفجأة كان على فوزي التخلي عن مدافعه لكن اليهود لم يضغطوا في الهجوم فانسحب العرب انسحابا جيدا!
وهبت الصحف العربية الموالية لفوزي لتمجيده وقالت ان فوزي قد اكتسح مستعمرة مشمار هعيمك. بعد الهجوم بوقت قصير سأل مراسل اجنبي فوزي عن المدة التي يحتاجها لإخضاع المناطق الواقعة تحت سيطرة اليهود. فأجاب مبتسما بتعالٍ " لقد اكتسحت مشمار هعيمك في تسعين دقيقة ، لذلك ما عليك فعله هو إلا ان تحسب عدد المستعمرات الأخرى و تضربه بتسعين!
وبعد عدد من المناوشات انسحب جيش الإنقاذ الى شمال الجليل ثم الى جنوب لبنان ومن هناك ضاع جيش الإنقاذ كما ضاع شعب فلسطين في اصقاع المعمورة.
الدرس المستفاد من هذه الحكاية : المنتصر هو الذي يكتب التاريخ والمهزوم يكابر ويدعي ان ما كتبه المنتصر زيفا ... الحكم هو الواقع على الأرض لا أحد يستطيع ان ينكر الواقع على الأرض. الشاهد الصامت صوته ادعى من كل الأصوات!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد