قِران سيئ

mainThumb

19-12-2022 03:55 PM

«هاتف السيد هاريجان» قصة قصيرة للكاتب الأمريكي ستيفن كينغ، حولها المخرج جون لي هانكوك إلى فيلم عرض مؤخرا على منصة نتفليكس، وهو موجه للناشئة، لكنه ثري جدا بمحتوى أدبي إنساني، ويغرس في الأجيال الشابة حب القراءة وفهم بعض الأمور المعقدة المرتبطة بالعالم الرقمي، والتغيرات التي لامست الحياة بظهور الهواتف الذكية.
القصة مبنية على عنصر الرعب التشويقي، لكنه ليس الرعب الذي يقتلع قلب المتفرج من مكانه ويجعله يفقد السيطرة على نفسه. بالنسبة لي قد تكون القصة منذ البداية موجهة من طرف الكاتب لكسب أكبر عدد ممكن من القراء، وقد صنفها بعض النقاد بأنها قصة سخيفة وسيئة، ولا بأس من ذلك فليست كل النصوص تعجب النقاد الذين يتعاطون الأدب كمادة لها مكوناتها الجمالية، بدءا باللغة، إلى قيمتها الإنسانية. إذ يبدو لي أن لكل نص رسالة ما خارج أطره الفنية، وقصة بهذه المعطيات التوجيهية ليست أكثر من قصة ذات هدف تربوي محبوك ينول التشويق بما يناسب الفئة الشاسعة من القراء.
القصة متعلقة بطفل (جيدين مارتل) دخل عالم القراءة من باب تقديم خدمة لرجل مُسَن (دونالد ساذرلاند) يزوره مرتين في الأسبوع للقراءة له بصوت مسموع، بعد عدة سنوات تتحول جلسات القراءة تلك إلى مناقشات وحوارات ممتعة، أفضت إلى ما تنتجه القراءة بالفعل لأي قارئ. يسأل العجوز الطفل الذي أصبح مراهقا: «ماذا تعني لك القراءة؟ هل هي مجرد واجب أو التزام للحصول على مبلغ من المال؟» فيجيب: «الأمر مرتبط اليوم بالوقت الذي استمتع فيه حين أقضيه بصحبتك، ولأني أحب رائحة الكتب، ولأنني أحب حواراتنا معا، ولأن القراءة بصوت جهير تمنحني شعورا بالقوة لا أتمتع به خارج هذه الغرفة».
تناقش فكرة الفيلم موضوع القراءة في الحقيقة، أما باقي التفاصيل فتبدو مجرد دعامات لجعل القصة أكثر جاذبية، مثل وجود الأرواح الشريرة التي بمقدورها قتل الأحياء، التي ابتكرها الكاتب من خلال بقاء ذلك الرابط الخفي الذي يمكن الحي من التواصل مع الميت. يضع كريج الهاتف في جيب المليادير الميت جون هاريجان قبل دفنه، وفي لحظة حزن عميقة يرسل له رسالة من هاتفه، فإذا به يتلقى جوابا، لكن الأمر لم يتوقف هنا، إذ أن شكواه من شخص سيئ عبر رسالة أخرى يتبعها مقتل ذلك الشخص، ولأن الأمور تشابكت ولم تكن واضحة لديه تماما، فقد اقنع نفسه بأن ما حدث مجرد صدفة، لكن تكراره لرسالة مماثلة أثبت له أن تواصله حقيقي مع صديقه العجوز الذي أصبح في العالم الآخر. ربما هناك إسقاطات أخرى متعلقة بالتأثيرات الشيطانية للهواتف الذكية على مستعمليها، وهذا وارد أيضا، فأفكار كينغ بسيطة وغير معقدة، لكن ألم نعش فعلا رعبا حقيقيا بسبب لعبة «الحوت الأزرق» لمن يتذكرها، وما نتج عنها من حالات انتحار لا مفهومة؟ إن المعنى هنا كامن في القوة التي تمتلكها هذه الأجهزة، خاصة في المستقبل الذي سيتجاوز ما نعيشه اليوم وما نراه بخطوات عملاقة لا نعرف عواقبها بالضبط. لقد جمعت القصة جيلين، جيل عجوز هو الآن في طور الانقراض، وجيل ديجيتالي صاعد، يعيش في عالمين متقاطعين بقوة هما الواقعي المحسوس والافتراضي ذو التأثيرات العجيبة!
وكأن السؤال الرئيسي المطروح من خلالها هو ما مصير الأجيال القادمة التي ستعيش عابرة لعالمها المحسوس دون أن تعايشه تماما بحواسها الخمس؟ ندرك ذلك في تلك اللحظة التي يهدي كريج هاتفا ذكيا للملياردير العجوز الذي سيرفضه في البداية، وحين يقوم الصبي بالكشف عما يخفيه من تطبيقات عجيبة، سنراه بعد عدة جلسات مأخوذا به، حتى أن فصل القراءة سيصبح وكأنه فعل من طرف واحد، تلك اللحظة سيكتشفها كريج بنفسه وسيفهم مدى بشاعتها فيغلق الكتاب بغضب محدثا صوتا أعاد العجوز الغارق في مادة إلكترونية جذبته إلى جلستهما معا. لقد تغير تأثير القراءة على القارئ بصوت عال الآن، إن المتعة والشعور بالقوة كان في رهبة التلقي والإصغاء الجيد. يبدو لي أن فعل القراءة كان جميلا ما دام مرتبطا بحرية الاختيار، وبممارسته كاملا، كما يجب أن يكون، وقد توفرت فيه عناصره الأساسية (الكتاب، القارئ، والمتلقي، وفعل القراءة بصوت مسموع) يليه طبعا نقاش لتلك الأفكار المطروحة من طرف الكاتب، في الحالة الإلكترونية ستسقط الركائز الأساسية لفعل القراءة، فما نبدأ قراءته قد يكون مجرد طعم يقودنا لمواد أخرى متسلسلة ومتداخلة دون أن نفهم الرابط بينها، بحيث تعمل على تشتيتنا فتجعل فعل القراءة غير مكتمل. ليس فقط لأن ما تقدمه مختصرا، بل لأن الغاية ليست طرح الأفكار، بل الاستحواذ على تفكيرنا، وأخذنا لأمكنة لا نريدها، كما حدث لكريج الذي استعمل هاتف السيد هارجان للتواصل معه كصديق افتقده، لكن الأمور خرجت من يده وسيطرته، فحولته بشكل ما مجرما، وقد حمله ضميره ثقل ما تسبب به من جرائم دون قصد منه.
في مشهد أخير يجلس كريج أمام قبر السيد هاريجان ويسأله عن رسالته الأخيرة له، هل يريده أن يتوقف لأن ما فعله يسبب الأذى لأحدهما أم لهما معا؟ ثم يركض بعيدا ويرمي بهاتف السيد هاريجان في بحيرة مقابلة، فيما يصعب عليه رمي هاتفه هو وقد توضحت له الصورة كاملة: «في القرن الواحد والعشرين، أعتقد أننا صرنا مقترنين بالعالم من خلال هواتفنا، وإن كان الأمر كذلك، فهو قران سيئ على الأرجح». إن الهواتف الذكية اليوم شئنا أم أبينا أصبحت كائنات اجتماعية تقنية، وهي لم تعد وسيلة اتصال فقط، بل وسيلة عمل وترفيه وتعليم. وقد خلقت نظاما عالميا لا يمكن للإنسان الاستغناء عنه، لكنها أيضا خلقت مشكلة عويصة يواجهها صناعها في صمت مع أنها متفاقمة إذ تشكل جزءا مهما من النفايات الإلكترونية الملوثة للبيئة، بحكم عمرها القصير وظهور أجيال جديدة مستحدثة بتطبيقات أجدد، ما يجعل المستهلك يتخلص من كل قديم في مزبلته، دون أن يرى الكميات الهائلة من الأجهزة التي يتخلى عنها الناس سنويا. هنا نصبح في مواجهة موضوع آخر، لم يتطرق إليه الكاتب ولا مخرج الفيلم، لكنه يشغل علماء البيئة، وأنصار الطبيعة، والمتخوفون من العصر الآلي الذي قد يبسط سلطته على حساب كل ما هو حي على كوكب الأرض.
ثمة جانب إيجابي مهم في القصة، حتى إن اتفق نقاد الأدب في معظم المنابر الإعلامية العالمية أن ما يكتبه كينغ يتكيف أكثر مع الشاشة، فهو يعرف متى يجعل الأمور تسوء خلال مجرى الأحداث، ولا تحرر قارئه إلا إذا بلغ نهاية القصة. حبكة ذكية وناجحة دوما لكسب مزيد من القراء والمشاهدين حين تتحول قصصه إلى أفلام. يقدم لنا إذن وصفته السحرية للنجاح، وهي الوصفة القديمة الجديدة في تاريخ البشرية كلها، الصراع بين الخير والشر، وانتصار الخير مهما بدت لنا «جماليات الشر» ساحرة وجذابة في البداية. كأن نرى الكراهية دافعا جيدا لتحقيق انتصارات ما، أو إقصاء الآخر المختلف حتى نعيش بهناء أكثر.
نستعيد فكرة كينغ القائلة: «قليل من الخيال المظلم قد ينير العالم» في انتصاره للخيال التخميني، الذي يحمل القارئ أو المشاهد سواء في رحلة إلى ما يمكن أن يحدث وفق معطيات معينة. وهذا ما قدمه في هذه القصة متوقعا أن الأجهزة الذكية ستقتل الصحف وتدمر فكرة المصادر الموثوقة، وبالتأكيد سترتفع الأخبار الكاذبة، حينها ما الحل الذي يمكن أن يواجه به إنسان القرن المقبل الفضاء الكاذب الذي سيعيش فيه؟


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد